غم ضيق الحال، وقلة وسائل الترفيه، الا أن الدنيا كانت واسعة وملونة في عيوننا الصغيرة تماماً مثل «التنورة» الشعبية في احتفالات المولد..
رمضان الصيف.. كان يتسابق الوصول مع أكياس القمح القادمة من الحصيدة، اما أن تصوم الأكياس معنا في ساحة الدار، وأما أن تتسحر على رشفة ندى في السهل وتعود في اليوم التالي ..
كانت تختلط رائحة القمح الطازج مع رائحة رمضان الذي يحلق في السماء كسنونوة تبحث عن بيتها...المنجل مغروز في حائط الطين كإشارة استفهام مزمنة..وأكياس الخيش الزائدة و»المبقوطة» تلف وتوضع في شباك «الحاصل»..»المسلاّت» التي خاطت شفاه الأكياس الكاظمة قمحها، تدق في وريد الجدار الطيني مطعوم مناعة لموسم جديد...و»الكواير» تتمضمض بآخر حفنة قمح قديم ظلت معها طيلة حول كامل وتطبق معدتها الحديدية لاستقبال «قمح السنة»..
في رمضان الصيف.. كنت في الخامسة من عمري عندما جرّبت الصيام لأول مرة، كنت احك خدي بفخار الخابية كلما احتلني العطش، احس ببرود الماء المختبئ بجوفها، ذلك الماء المدلل بزاوية العريشة، والمظلل بليمونة حنونة..وعندما يشتد قيظ الظهيرة أدلي الكأس المربوط بيدها أنظر حولي وأشرب ملء عطشي ما استطعت من الماء المطعم بزهر الليمون ..ثم أستفتي نفسي ولو أفتوني بأن ماء الخابية لا يفطر...
في رمضان الصيف..رائحة الطابون تعطّر المساء ، والقهوة المغلية على مهل فوق «بابور» مساعد في مطبخنا المعتم، وعصافير السهل التي ترفرف فوق حينا لتطمئن على ضيافة رفاق الحقل وحبوب المدى..صوت ابتهالات دينية يخرج من راديو قديم عند الجيران، يشوبه بعض التشويش لكن صوت «النقشبندي» ما زال صداحاً جميلاً ...الحصيرة التي تفرد في العريشة، «الجنّابيات» اللاتي لا يتغيّرن مثل أركان السياسة في بلدي..وسائد أبي المكتنزة و المفضلة، «التيرموس» السعودي على منصب حديدي لا يخرج للملأ الا قبل الافطار بدقائق، صوت عصافير السنونو التي تودّع المغيب بزقزقة فريدة ، تقاطر الدجاجات بانتظام وأدب الى الخم..خبز امي المفرود على طبق القشّ «المنسفة» تحمله على رأسها من الطابون الى العريشة...الطناجر المغلقة على عيون النار المطفأة، القطط التي تحوم حول التخوم ..صوت الحاج محمد مفلح العزايزة وهو «يذكّر» ما قبل الإفطار..كلها تطريزات في ثوب الماضي لكنها ما زالت حية في قفص الذاكرة..
رمضان في الصيف.. مثل دفتر مذكرات معتقل سياسي، محشو بالأحداث والتفاصيل الدقيقة والموجعة والجميلة لكنها قد لا تعني أحدا غيره أو من جرّب الاعتقال!..
الراي