هل العيب في الموسيقي الذي يعزف لحنا شجيا ام في الآطرش الذي يدير له ظهره ؟ وهل العيب في لوحات دافنشي وبيكاسو ودالي ام في الاعمى الذي يسند ظهره الى اللوحة ولا يفرق بينها وبين لوح خشبي ؟ لكن حتى الاطرش يصغي بروحه وقلبه الى ما يرشح من الصّمت ويترجمه ابداعا كما فعل بتهوفن الذي اضطر احد العازفين الى امساكه من كتفه كي يستدير ويرى التصفيق الذي لم يسمعه .
وكذلك الاعمى الذي له من بصيرة القلب والروح ما يجعله يرى لنا بما لديه من استبصار يفوق كل إبصار .
هذا ما فعله المعري وطه حسين وبورخيس في مجتمعات اعدت امثالهم للتسول امام المساجد لكنهم تمردوا وحولوا ملايين المبصرين الى متسولين لما يفيض لديهم من رؤى وافكار .
ان من يفقد القدرة على الاندهاش ليس المقياس الذي يحتكم اليه كي يقال بأنه ما من شيء مدهش على الاطلاق، فالدهشة كالقبلة لا بد من وجود طرفين لتنفيذها، المدهش بما يبدع والمندهش بما لديه من قدرة على التلقي والفهم .
لهذا قال الشاعر ابوتمام ذات يوم لمن سأله لماذا يكتب ما لا يفهم لماذا لا تفهم ما اقول ؟ انها حوارية ابدية، تتجلى في كل عصر بصورة جديدة، ويبدو ان تراكم التخلف وسلاسل جباله الجرداء وقيعانه المليئة بالحصى لا بالماء ادى الى هذه القطيعة بل الى هذا الطلاق البائن بين المرسل والمرسل اليه .
حتى النكتة التي تبدو ثقيلة الدم قد يكون العيب في الشخص الذي يتلقاها ولا يستطيع تفكيكها لأنها مركبة وذكية .
ان سوء التفاهم الذي بلغ ذروته في هذا الزمن خلط حابل القمح بنابل الزؤان وما من غربال يحسم الامر .
واذا كان المطلوب ممن تبقى على قيد ذاكرته ووعيه ان يشرب من نهر الجنون كي يتأقلم ويعيش فإن الحياة التي ثمنها التخلي عن العقل لا تستحق ان تُعاش، لأنها سوف تتحول إلى حفلة تعذيب حتى النهاية .
فكم من الصّبر والصلابة والثقة بالنفس يحتاج المرء كي يصدق بأنه يعزف لطرشان ويرسم لعميان ؟؟
الدستور