كان«استعراض العلم» في مئوية الثورة العربية الكبرى وعيد النهضة العربية،فرصة لآلاف الحضور والملايين عبر شاشات التلفزيون لرصد ذكريات الولادة والبداية والنشوء والارتقاء للوطن بقيادته ومؤسسة الجيش العربي الأردني،فخلال ساعة ونصف اختصرت الفصائل المشاركة قصة وطن بناه أبناؤه الحماة ناف على خمس وتسعين سنة، لم يغادر جيشنا فيها معركة أو وقيعة إلا كان المقدام فيها ورأس حربة كارٍ غير فار منها،وحليف رديف وعون للشعب في الملمات والأزمات.
أمام جلالة الملك عبدالله الثاني إستعرض سبعمائة عسكري يمثلون مختلف وحدات القوات المسلحة الأردنية، صورا رائعة من الاحترافية في إعادة رسم تاريخ جيشنا بلغة الصمت الوقور، حيث نفذت الوحدات عروضها بإنضباطية صارمة، افتتحها مجموعة لقوات البادية الملكية والهجانة، وهي نواة القوة العسكرية للدولة الأردنية، ثم أقدم كتيبة في الجيش الأردني كتيبة الأمير الحسين بن عبدالله الثاني حيث ارتدى أفرادها لباس الجيش التاريخي المعروف بـ «لباس القدس» ولهذا مدلولات عميقة تمثل معارك البسالة التي خاضها جيشنا في القدس وفلسطين، حيث تسلمت الكتيبة راية الثورة العربية من قائدها الأعلى.
لم تكن المناسبة مجرد عرض عسكري، بل جاء بعد جهد مضن للجنود المجهولين،حاولوا تلخيص دور الجيش الأردني التاريخي في بناء الوعي الوطني لدى عامة الشعب الأردني والعربي، حيث انخرط في صفوفه منذ التأسيس العديد من أفراد العشائر والعائلات العربية من غير الأردن،وهذا كان ملخص رسالة النهضة العربية نحو تحديد مهمات الأمة العربية بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى وبروز القوى الجديدة وانهيار الإمبراطورية العثمانية وارتقاء الترك الجدد.
لقد كان للرايات والأعلام المشاركة في الاحتفال مدلولات عميقة على متابعة تاريخ الجيش وارتباطه بأمته، فكل العهود العربية الإسلامية منذ زمن الخلافة العربية الأولى موجودة في أعلامنا الفرعية وفي العلم الأردني الرئيس الذي يمثل وحدتنا وهويتنا الرمزية، فلا لباس و كوفيات ولا ألوان لها علاقة بتحديد هوية الوطن والمواطن سوى العلم والراية، والراية التي قُطعت يدي جعفر الطيار وهو يحملها، كانت هوية جيش الأمة العربية الإسلامية في معركة الحق والتحرير،فضمها بعضديه حتى استشهد.
من شاهد الصور الفنية التي نفذها البواسل من مرتبات الجيش في «ميدان الراية»حيث الاحتفال، ليس كمن أحس بوقع لمحات التاريخ الأردني عبر انبهار الحضور ممن لا يعرفون كثيرا عما مثلته اللوحات الصامتة على أرض الواقع ،حيث قائد المراسم يقود الكتائب من على ظهر جواده، فيما مجموعة الفرسان الملكية تحث خطى جيادهم برهبة واتزان، ترافقهم موسيقات القوات المسلحة بمعزوفاتها التاريخية التي ترتبط بذاكرة التاريخ الشعبي الأردني، فكان الحضور الدبلوماسي والمدني مفعم بالدهشة والسرور، فهذا أول عرض لم يتكلم فيه أحد ولم يقاطع النشامى فيه صوت، وتلك إحترافية وانضباط معهودة لإخواننا المغاوير.
ما هي الرسالة إذا ؟ الرسالة هي أن هذا الجيش لم يكن يوما عدوا لشعبه وأمته، بل كان واحدا من أهم سدود الحماية ، فهو سدّ وسند، وهو بطل السلم كما هو بطل الحرب، لم يتحول في يوم ما الى هراوة قمع لشعبه ولا كابوس وبؤس لأطفاله، لم يقتلهم ولم يحاصرهم ولم يشتتهم شيعا، ولم يحيك الفتن والدسائس لهم، فإيمانه راسخ بالله وبالقائد والوطن والشعب تحت الراية الأغلى، وغايته القصوى حماية الوطن أرضا ودولة من أي خطر برا أو جوا، كي ينام الأطفال ملء أعينهم آمنين.
بعد مائة عام على ثورة العرب الكبرى التي مثلت ثورتهم على تخلفهم وتشتتهم وارتهانهم لغيرهم قبل كل شيء، ننظر الى الوراء البعيد، فنستذكر كيف بلادنا وكيف أصبحت، كان الوعد أن تكون أمتنا شعبا واحدا في دولة واحدة تحت حكم ملك واحد، ولكن الغايات والدسائس شتتنا الى دول وشعوب ، فقُتل الحلم، ولا يزال العرب يدفعون ثمن ما نكصوا عنه، ولكن بفضل الله بقي هذا الوطن بحكمة القيادة ووعي الشعب، وارثا لحلم الثورة ورافعا لمبادىء النهضة، وهذا ما يؤمل من الجميع الوعي له.
اليوم وفي ظل ضياع الشعوب بين قتيل ولاجىء ومطارد، يجب على الآباء والمدارس والمساجد والكنائس زرع قيم التحضر والوعي في أبنائنا، فالشباب الذين نعول عليهم لتغيير الواقع يجب أن يعرفوا ويفهموا حجم المعاناة التي عاشها الرعيل الأول، وكيف حافظنا على استقرارنا في بحر القلاقل والحروب، ولينهض الجميع نحو المستقبل مؤمنين بوطنهم الجامع.
الراي