سألني صديقنا الشاعر حيدر محمود عن رأيي بقصيدة محمود درويش الجديدة "لاعب النرد" ، فقلت: إنّه ينعى نفسه. وليتني ما قلتها. وحين عاد محمود إلى عمّان من باريس ، بعد عملية شرايين صعبة ، سألته: كيف الصحّة؟ ، فقال: حديد يعلوه الصدأ. وليس هناك شاعر تناول الموت كما فعل حبيبنا درويش ، وليس هناك من موت تجرأ على النيل منه سوى الموت نفسه ، مع أنّه كان رفيقه الدائم ، وعدوّه في آن.
مات محمود ، ولكنّ الغياب لم يزد واحداً ، فكلماته ملء الأرض ، وغمر السماء ، ومع هذا فنحن نغرق في الدموع فحضور شخصه الطاغي كان يواكب حضوره الشعري ، ويعني تأكيد تفوّق الجمال ، والتمرّد ، وبعد خروجه من بيروت زار الشارقة ، وقُبيل إلقائه قصيدتيه "بيروت" و"مديح الظلّ العالي" ، همس في أذنه صديق بأنّ الإمارات منعت قبل يومين قصيدته "صباح الخير يا ماجد" ، فبدأ الأمسية بقراءة تلك القصيدة.
وبعد الأمسية ، كان محمود درويش يتحدّث عن الفيلا التي خُصّصت له في سيدي بو سعيد التونسية ، باعتباره عُيّن في منصب كبير في الجامعة العربية ، والمشهد الساحر المطلّ على البحر ، وما بدا رغبة عربية رسمية في سحب بداوته منه ، وأعلن أنّه لن يعود إليها ، فكتب زميلنا ناشي طه: "درويش ، أفشلت موت بوشكين" ، وسافر محمود بعدها إلى باريس.
وكلّ قصيدة لدرويش جديرة بالاحتفال الدائم ، ومن مجموع ما كتب يأتي حاصل جمع ما جرى لفلسطين ، لكنّ قصيدة "لاعب النرد" الأخيرة تحمل نكهة أخرى ، جديدة ، ولو جاز إعادة تسمية قصيدة لسمّاها محمود في برزخه وبياضه الآن "الوداعية" ، تماماً كما كتب "الجدارية" بعد هروبه من موت سابق.
وكان للمكانات دوماً تأثيرها على درويش ، مكانات الرحيل ، ومكانات الوصول ، ومكانات المنفى ، ومكانات كتابة القصيدة ، ومكانات قراءتها ، ومكانات الموت في أنواعه ، وفي هيوستن كان الموت الأخير ، فكأنّه يُعلن من خلاله عالميته وإنسانيته ، وقد كان للقاهرة أثر على قصيدة لدرويش فـ:"للنيل حالات.. وإنّي راحل" ، وكانت لبيروت آثار أيضاً فـ:"بيروت خيمتنا الأخيرة" ، وقبل هذه وتلك كانت حيفا و:"سجّل أنا عربيّ" ، وما بينهما ظلّ التنقّل والتشرّد خصوصية لصاحبنا حيث "يطوي المدينة مثلما يطوي الكتاب" ، من تونس الى عمّان الى باريس ، على سرير الغريبة ، وفي مقابلة صحافية أكّد درويش مرّة أنّه يريد سريراً له ، في غرفته هو ، في بلده هو ، مع طاولة للكتابة ، وقلم وورقة ، "ولا أريد غير ذلك".
"خيمة في مهبّ الجهات".. ذلك هو درويش: حاصل جمع حيفا وصوفيا وبيروت والقاهرة وباريس وعمّان وتونس وهيوستن ، والجهات الأربع ، والسنوات السبعة والستين وقصيدته" الوداعية" الأخيرة تكثّف رؤية تجمّعت من تجربّة فريدة ، مثل غيمة عتيقة جابت الدنيا كلّها ، وجمعت البخار كلّه ، لتمطر في أنحاء الأرض.
عن الدستور .