منذ فترة شاهدت على شاشة ال بي بي سي البريطانية حلقة عن اعادة التدوير والاستخدام للموارد والمواد التي سبق انتاجها وانتهت آجالها. وورد ضمن الحديث اصطلاح «الاقتصاد الدائري».
فقررت البحث في الموضوع ومشاركة القراء ما توصل إليه من معلومات ومصطلحات. وأصل الاصطلاح «الاقتصاد الدائري» جاء في كتاب صدر عام (1989) بعنوان «اقتصاديات الموارد الطبيعية والبيئة» الصادر عن مطبعة جامعة «جونز هوبكنز» الأمريكية لمؤلفيه ديفيد بيرس و آر. كيري تيرمز. ويميز المؤلفان فيه بين ما يسمى بالاقتصاد الخطي حيث يكون استهلاك الموارد مفتوحاً. والاقتصاد الدائري حيث يعاد تدوير الموارد ليستفاد منها أكثر من مرة. وتبع ذلك كتاب وضعته متخصصة في علم البيولوجيا اسمها «جانين بانيعاس» بعنوان «تقليد الطبيعة: التجديد المستلهم من الطبيعة». وتؤكد الباحثة في الكتاب على أن النظر إلى الأنظمة الموجودة في الطبيعة يمكن تقليد بعضها بحيث نستطيع أن نوفر في استخدام الموارد وتقدم الباحثة الكثير من الأمثلة على ذلك في كتابها. أما الباحث السويسري المتخصص في الهندسة المعمارية، «وولترستاهيل»، فقد وضع كتاباً اسمه «من المهد إلى المهد»، ونشره عام (1982). وقد وضع هذا الكتاب بعدما نشر نادي روما تقريراً يدعو فيه الدول في العالم إلى الاكتفاء بمعدل نمو سنوي قدره (1%) طوال عقد السبعينات من أجل تقليل استخدام الموارد. وقد لاقى ذلك التقرير الكثير من الانتقاد الجارح خاصة من الدول النامية التي كانت تحتاج لمعدلات نمو مرتفعة لكي تواجه مشكلات الفقر والبطالة. ولكن التقرير استعاد اهميته لما يثبت في نهاية عقد السبعينات أن معدلات النمو لم تزد عن 1%، ولكن بكلفة أعلى من الموارد المستخدمة.
ولو ان العالم اتبع نصيحة «نادي روما»، لوفر على الأقل من اثنين إلى ثلاثة في المئة من الموارد التي استخدمت وذهبت هدراً لأنها لم تحسن من معدلات النمو فوق النسبة التي اقترحها النادي في مطلع العقد. حينها تقدم «ستاهيل» بفكرة من المهد إلى المهد» عوضاً عن فكرة من «المهد إلى اللحد» مؤكداً أن استخدام الموارد يمكن تجديده بدلاً من تركه يموت. وقد سبقت هذه الفكرة نما نشره المؤلفان الأمريكيان «بيرس» و «تيرنر» حول الاقتصاد الدائري والاقتصاد الخطي بسبب سنوات. أما رجل الأعمال البلجيكي «جونترباولي»، فقد وضع كتاب «الاقتصاد الأزرق». ويعني هذا الاصطلاح أن نجعل فضلات شخص ما مرة لتدفق نقدي لشخص آخر، أو لنفس الشخص. وهو ما يشار إليه أحياناً فإن قمامة شخص ما هي رزق شخص آخر.
وقدم «باولي» مئة فكرة مختلفة ليثبت صحة آرائه التي نشرها في الكتاب الصادر في منتصف التسعينات من القرن الماضي. لقد أبدى كثير من الاقتصاديين الكلاسيكيين والمحدثين إعجابهم «بالرأسماليين» بسبب قدرتهم على الابداع. وفي كتابه المعروف بعنوان «الاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية» طور الاقتصادي الأمريكي النمساوي «جوزيف شمبيتر» فكرة «الهدم البناء» أو «الهدم الخلاق» ليقول أن التكنولوجيا الحديثة تطور سلعاً وخدمات وأفكاراً جديدة تهدم ما قبلها. وهكذا يفسر الدورات الاقتصادية طويلة الاجل في النظم الرأسمالية. وقال إن الرأسماليين والمنظمين يقومون بالتجديد الدائم ويخلقون سلعاً جديدة، ولكن هذا النمط من النمو سيقود في نهاية المطاف إلى إحداث دورات اقتصادية سلبية يصعب الخروج منها، وتؤدي إلى سقوط الرأسمالية.
وفي معرض التصدي لهذه الفكرة، فقد وجدت أن باحثاً سعودياً قد قدم مؤلفاً متميزاً يستحق التقدير الكبير.
إنه طبيب أعصاب متخصص ويتمتع بسمعة دولية عالية، ويعمل حاليا في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة، واسمه الدكتور نايف الروضان، وقد نشر كتاباً قبل بضع سنوات باللغة الإنجليزية اجتهدت في ترجمه عنوانه «ديمومة التاريخ وكرامة الانسان». ويرى الكاتب أن التاريخ هو خط ممتد يستمد ديمومته من الحاكمية، والتي تحقق بدورها عن طريق تحقيق التوازن بين الطبيعة البشرية بسلبياتها المتمثلة في العاطفة الزائدة واللامنطقية والأنانية من ناحية مع الجوانب الإيجابية المتمثلة في المنطق والعقلانية، والأمن، والعدل والفرص التجديد والاشتمالية. وبمعنى آخر، فإن الدكتور نايف الروضان يؤكد أن يدفع الانسان للاستثمار والسعي وراء الربح والقوة عن طريق غريزة الأنانية وحب الذات والسعي لمزيد من القوة والنفوذ قد تكون سبب المشكلة التي تحدث عنها جوزيف شمبيتر من الدورات الاقتصادية السلبية التي تؤدي إلى انهيار الرأسمالي. ولذلك يتحدث الروضان ان استمرار المجتمعات والأنظمة لا بد وأن يجابه هذه الغرائز بفعل إنساني خلقي يقوم على احترام كرامة الانسان، وعلى الحاكمية التي تستند إلى العقلانية والعدل والكرامة. مما لا شك فيه، أن الاقتصاد الاخضر يتطلب فهماً أعمق لضرورة الحفاظ على البيئة مستخدمين الوسائل العلمية، ومقلّدين للنظم الطبيعية وخالقين للحوافز التي تدفع الناس لإعادة تدوير الموارد بشكل مربح لأن كثيراً من هذه الموارد كالماء ومصادر الطاقة والمواد الخام والمعادن النادرة موجودة بكميات محدودة غير قابلة للتجديد. آن لنا في الوطن العربي أن نعي الجوانب المختلفة لمفهوم الاقتصاد الدائري، وأن نبدأ في بناء نظم الانتاج والبحث المحفزة عليه لأننا نحن يجب أن نكون أعلم الناس بقلة الموارد.
الدستور