حنين حار .. لمكتبة البيت وشتاء المفرق القارص
01-06-2016 11:30 AM
عمون - هناك حيث تمتد بادية الشام في المدى عميقة لامتناهية تحت سماء زرقاء صافية في النهار، مزدانة بنجوم متلألاة في ليال الصيف الندية، وعيت على الحياة في المفرق. ولدت فيها ذات ليلة ماطرة في أواخر شهر تشرين الثاني عام 1944، وشببت فيها، ودرست في مدارسها حتى نهاية الصف الثاني إعدادي. أغوص وقد بلغت الآن الثانية والسبعين في ذكريات الطفولة، انفض عنها غبار النسيان، ليعرف ابناء الزمن الحاضر كيف كنا عندئذ...
منزلنا
تألف منزلنا الذي بناه والدنا من غرفتي نوم ومطبخ وغرفة خزين مع فناء واسع على شكل حرف (L) (الحوش)، الذي زرعت بجوار سوره الشرقي شجرتا صنوبر نمتا ضخمتين في بلدة شجرها قليل، فكان منزلنا يعرف بهاتين الشجرتين. وخصص جزء من الحديقة للورود والنعناع والخضراوات، واقيم خم للدجاج صغير في نهاية الحديقة، ولكن لحين. أمام الغرف صبت مصطبة اسمنتية مالسة مرتفعة تعلوها دالية عنب، وكنا نلعب عليها نحن الأطفال بأمان. واذكر أختي عبلة تخرج طاولة صغيرة (اسكملة) وتصف ألعابها عليها، وأكون انا ملهيا بركوب دراجتي من ثلاثة عجلات، او حين كبرت قليلا مشغولا بصنع طائرة ورقية. في الصيف كانت الساحة تكنس وتمسح كل مساء لتنظيفها من غبرة المفرق وعجاجها الغزير، لتتحول في أماسي الصيف الى مكان جلوس نتعلل فيه، وأحيانا مع ضيوفنا، نتنشق الهواء الصحراوي العليل، وفي ليالي الصيف الحارة كنا نخرج الفراش من الداخل ونضعه فوق البسط وننام ليلتنا في أجواء من البراد اللطيف. وكان منظر النجوم مرصعة في السماء الصافية وهي تتلألأ مثيرا للخيال الصبي، قبل ان نغفو في نوم عميق بريء تشاركنا فيه قطتنا، ونصحو في الصبح وقد رطب الندى الغطاء الذي التحفناه.
غرفة المكتبة
في وقت لاحق، وعندما زاد عدد افراد العائلة الى ثمانية، بنى والدي غرفة أخرى وضع فيها كتبه التي كانت تنمو يوما بعد يوم، فصمم مكتبة في الحائط لها باب زجاجي، إضافة الى مكتبتين خشبيتين، وتم استخدام الغرفة التي وضع فيها ديوان خشبي وكراسي مريحة صالونا نستقبل فيها الضيوف في المناسبات، وصارت كذلك غرفة لضيوفنا ينامون فيها، كما وصارت ملاذي في الإجازات وأوقات الفراغ خاصة في الصيف حين تعطل المدارس، فأطالع فيها كتبا مختلفة مستلقيا على الديوان، ومنها بدأت أتثقف وأتعلم وأكتشف عالم القراءة اللامحدود. واكتشفت مجلة صارت مفضلة اسمها (أسرار العالم) صدرت من بيروت تروي قصصا وحكايا عجيبة تثير الخيال. وبعدها قرأت (الف ليلة وليلة) التي طبعت في مطابع روايات الهلال مسلسلة في ستة أجزاء، ثم اكتشفت طه حسين والعقاد وموسى سلامة وخالد محمد خالد، ومسرحيات برنارد شو وشكسبير، وكذلك قرأت مجلات الأديب والآداب والهلال، والرائد الحلبية، وغيرها.
وتعلقت بروايات (جورجي زيدان) عن التاريخ العربي ومنها (العباسة أخت الرشيد) و(المملوك الشارد)، وكذلك قرأت (الإلياذة والأوديسا) وأعجبت بمغامرات (اوديسيوس) في عصر البطولة. ولفت نظري قصة (ماجدولين او تحت ظلال الزيزفون) من تعريب مصطفى لطفي المنفلوطي، التي كانت صفحاتها الأولى مفقودة، فخطها والدي بخط يده الجميل بالحبر الأزرق على ورقات من ذات حجم الكتاب، وألصقها بالكتاب نفسه.
وكنت اتبادل مع أصدقائي قصص أرسين لوبين، وأقرأها بشغف، كيف لا وهو اللص الظريف الذي يأخذ من الأغنياء ليعطي الفقراء، في محاولة منه لتحقيق العدالة، وكذلك قرأت روايات (طرزان) بطل الغاب.
السيجارة الأولى
وقد دخنت اول سيجارة لي في تلك الغرفة، حيث كان من واجبات الضيافة تقديم السجاير للضيوف فتترك العلب جاهزة دائما في غرفة الصالون. ومنها ماركة (السيد) وكان ثمن العلبة شلنا. وكان تدخين تلك السيجارة من باب التقليد وحب الاستطلاع. لكن ما كدت اسحب أول نفس حتى تشردقت وكححت كثيرا واحمرت عيناي. لم أدخن في طفولتي بعدها. لكني مارست التدخين حين ذهبت للجامعة عام 1962، وكانت البداية في كلية بيرزيت على يد زميلي في الغرفة رمزي شويحات، قبل ان انتقل الى الجامعة الأردنية.
الأعراس والاحتفالات
كانت الأعراس تبدأ بإقامة الدبكة في ساحة امام بيت العريس في المساء. ويوم الزفة يُحمل المغني قائد الحفلة على كتف رجل وهو يهزج «تهيا يا تخت تهيا»، ويردد الآخرون وراءه الأهازيج، ويقود الجاهة باتجاه بيت العروس. وكان يطلق الرصاص أحيانا في الهواء، او تنثر قروش او قطع الملبس (الحلوى) على المشاركين، فيسارع الأطفال لجمعها، كما كانت توزع الحلويات، ويسير الموكب باتجاه الكنيسة.
وأذكر في طفولتي ان والدي أخذنا نحن افراد أسرته لحضور فيلم لفريد الأطرش عرض في سينما تابعة لشركة النفط، وأذكرأيضا حفلة أقامها الجيش الإنجليزي في القاعدة ليلة عيد الميلاد ، واستلمنا هدايا وزعها (بابا نويل) في بدلته الحمراء، وتناولنا الكيك والحلوى.
كما أذكر حلقات الدبكة التي اقيمت في ساحة قريبة من منزلنا في إحدى الأمسيات، وربما كان ذلك عام 1952 عند اعتلاء المغفور له الملك الحسين الباني طيب الله ثراه عرش المملكة. كان الرجال يجتمعون ويهزجون ويدبكون في المساء. وأذكر أيضا احتفالات أقيمت حين أنهيت المعاهدة الأردنية-البريطانية عام 1956، وغادر الجيش الانجليزي الكامب (القاعدة)، وتحرر الوطن.
الشتاء ...
حين يقدم الشتاء يحل برد الصحراء القارص. كنا نتدفأ في البداية في منزلنا على جمر الفحم. كان والدي يبتاع قنطارا من الفحم الأسود يحضره عتال يجر عربة، ثم ينقله على ظهره الى غرفة الخزين. وكان عندنا منقل حديدي دائري لونه أخضر. وفي غرفة الخزين هذه، بني فرن صغير لصناعة الخبز(توقف استخدامه بعد ان فتح فرن عام). وتألفت المغسلة من سطل معدني في نهايته حنفية، رفعت على طاولة صغيرة ووضع بجانبها لوح صابون نغسل منه وجهنا وأيدينا. وفي أوائل الخمسينيات دخلت منزلنا صوبة السولار مستوردة من الشام، فاستغنينا عن الكانون وصرنا نتحلق حولها.
لم تتوفر في المدرسة تدفئة، فكنت اشعر بالبرودة تطب في قدمي رغم الاحتياطات التي كنت آخذ بها، كارتداء زوجين من الجوارب، لكن بدون فائدة. وأحيانا في الأيام الباردة كان يطلب منا المعلم ان نقوم بالألعاب السويدية داخل غرفة الصف لمدة خمس دقائق لتنشيط الدورة الدموية، فندفأ قليلا. كان المطر ينهمر مدرارا وتتشكل برك صغيرة نخوض بها في جزمنا المطاطية، ونضع بها قوارب ورقية من صنع أيدينا، ونتسابق مع الزملاء لنرى من (شختورته) تصل الجانب الآخر.
المدرسة
التحقت في الابتدائي بمدارس الروم والكاثوليك واللاتين، ثم في الإعدادي انتقلت الى مدرسة الحكومة. اذكر من معلماتي في المرحلة الأولى المعلمة نور والمعلمة هيلانة. وتخرجت من السادس ابتدائي من مدرسة اللاتين، ثم التحقت بمدرسة الحكومة عام 1956في الصف الأول الإعدادي بعد ان خضع جميع طلاب الصف السادس لامتحان كفاءة عقد لنا في مدرسة الحكومة .
ومن المعلمين الذين درسوني في هذه المدارس أذكر الأساتذة: اندراوس قاقيش معلم الإنجليزية، ونسيم الطوال من مادبا، والأستاذ كريم من بير زيت، وبولص حداد (هو الأب بولص حاليا المقيم في عمان وكان راعي كنيسة الهاشمي الشمالي) والأستاذ (الدكتور حاليا) حسني البواب والأستاذ جلال حداد. أما حصص الدين المسيحي في هذه المدارس فكان يعلمنا إياها في الأغلب رجال الدين المسيحي، منهم خوري اللاتين الأب يوسف الصوالحة. وفي مدرسة المفرق الحكومية اذكر الأستاذ عادل عوجان وفرحان حداد. وعادل عوجان كان استاذ الكشافة. وقد التحقت بفرقة الكشافة في الثاني إعدادي.
مدرسة اللاتين
كانت مدرسة اللاتين للذكور صغيرة المبنى تتألف من ثلاث غرف صفية، وغرفة للإدارة، وساحة صغيرة تبعد بضع خطوات من منزلنا. وكانت كل غرفة مخصصة لصفين: يجلس في جهة اليمين طلبة الصف الثالث مثلا، وفي الجهة اليسرى يجلس طلبة الصف الرابع. وكان المعلم يوزع وقت الحصة بين الصفين. كنا نجلس على بنوك طويلة يستوعب الواحد منها خمس او ست طلاب، وكان الطالب يعرض دفتر الوظيفة على الراحلة أمامه، ويلقي المعلم عليها نظرة، ويضع عليها علامة (صح) بقلمه الأحمر، ثم نباشر بحل الوظيفة جماعيا، وبعدها تعطى وظيفة جديدة. وبعد ان يفرغ المعلم من طلبة الصف الجالسين الى اليمين، ينتقل الى طلبة الصف الآخر الجالسين على اليسار، ويباشر تعليمهم بنفس الطريقة. وكان عدد الطلاب في الصف لا يزيد عن عشرين طالبا.
حين ينصرف المعلم للاهتمام بالصف الثاني كان يطلب من الصف الذي فرغ من تعليمه الالتزام بالهدوء . أذكر اني وزميلي ابن الجيران شلاش، الذي كان يجلس الى جانبي، كنا نغتنم هذه لفرصة، ونبدأ نمارس لعبة مفضلة لدينا. كان كتاب الجغرافيا يحوي خرائط، فكنا نفتح خريطة دولة ما، ويطلب الواحد منا من آلاخر هامسا ان يبحث في الخارطة عن إحدى المدن او القرى، مثل عمان او اربد او اللد او يافا او الإسكندرية او الرفيد او السلط، الخ، فيبدأ الآخر بالبحث عنها، حتى يجدها فيؤشر عليها بقلمه. كنا بالطبع نختار أصغر الأسماء وأغربها، وتستمر اللعبة بتكتم شديد حتى بقية الحصة.
طابور الصباح
كنا نصطف في طابور الصباح كل يوم بعد ان يقرع الجرس عند الساعة الثامنة الا ربعا في ساحة المدرسة، ويبدأ الأستاذ المناوب عملية التفتيش على النظافة وعلى القمل في الرأس. كان الطالب حين يقترب منه الأستاذ حاملا عصاه يمد يديه أمامه كاشفا عن أظافره، فإذا كانت طويلة كان الأستاذ يضرب الطالب على يده بالعصى ويطلب اليه ان يقصها، وكذلك اذا كان الشعر طويلا كان المعلم ينذر الطالب بضرورة قص شعره، واذا لم يستجب بعد بضعة أيام كان المعلم (وربما المدير) يستخدم مقصا لقص خصلة من شعر الطالب مما يضطره ان يحلق شعره. وكانت حلاقة الرأس (على الصفر) منتشرة في الصيف خاصة.
بعد التفتيش، كنا ننشد نشيد الصباح. ومن الأناشيد المعبرة والحماسية: نشيد «علمي: يا علم العرب أشرقي واخفقي»، و»موطني موطني الجلال والجمال «، ونحن الشباب لنا الغد» و»بلاد العرب أوطاني من الشام لتطوان». كانت حناجرنا تشق عنان الهدوء في تلك المدينة الوادعة الرابضة على سيف بادية الشام. وفي أيام البرد، كان المعلم المناوب يأتي حاملا ملعقة وزجاجة مملوءة بزيت السمك، ويفتح الطالب فمه فيضع المعلم فيه الملعقة المليئة بالزيت فيشفطها الطالب. وتنتقل الملعقة من فم الى فم على جميع أفواه الطلبة. وفي مواسم معينة، كان يتم تلقيح الطلبة ضد الأمراض، ويتم ذلك بتشطيب اليد (بإحداث جروح سطحية خفيفة على عضلة اليد) ثم تمسح بقطنة تحمل المضاد، وكانت اليد (تحيز) أحيانا وتتورم وتترك فجوة في مكانها تبقى ذكرى مدى الحياة.
وكانت أختي عبلة تذهب الى مدرسة اللاتين للبنات التي لا تبعد كثيرا عن منزلنا في حرم كنيسة اللاتين. وكانت الطالبات يرتدين مريولا أسود بقبة بيضاء. وتعلمت مع زميلاتهاعلى أيدي الراهبات، وكانت الرئيسة السير كلارا، وحدثتني أختي عبلة انها توفيت قبل أعوام عن 94 عاما، ومن معلماتها تذكر المعلمة ندى والمعلمة ابتهاج.
نظافة المدرسة
كان الطلبة يتولون عملية النظافة من كنس وجمع المهملات. كان كنس قاعة الصف يتم بالدور: كل طالب ملزم بكنس الصف في يوم محدد.
كان الأستاذ يعاقب الطالب الكسول ويضربه بالعصا على يده المفتوحة. وأحيانا يعاقب الطالب بالفلقة. وكان الطلبة يعايرون هذا الطالب بأنه (أكل فلقة). وكان الأهل لا يمانعون، بل يسمحون للمعلمين بمعاقبة أبنائهم بسرور لثقتهم بالمعلم أولا ولقناعتهم المطلقة بان المعلم انما يفعل ذلك لصالح الطالب. وكان المعلم محترما له مكانته في مجتمع المفرق، وكنا نحن الطلبة نتوارى عن أنظاره حين نراه مارا خشية ان يرانا ويعاقبنا في اليوم التالي باعتبار أننا نضيع وقتنا في اللعب لا في الدراسة.
كانت حصة الرياضة من أمتع الحصص، وكنا نخرج الى الساحة، ونمارس الألعاب السويدية، ونلعب كرة القدم في الأغلب في ساحة مجاورة خلف المدرسة. وفي أيام الشتاء الماطرة كنا نبقى داخل الغرفة، وكان الأستاذ يغلق الباب، ونأخذ ننشد الأغاني الوطنية طيلة الحصة.
أما مدرسة الحكومة فبنيت لاحقا في منتصف الخمسينيات من الحجر، على حدود البلدة الشمالية الغربية، وكانت لها دورة مياه خارجية مستقلة، وكانت الغرف كبيرة تتسع الواحدة لما لا يقل عن ثلاثين طالبا، وكانت فيها مكتبة استعرت منها كتبا ملونة جميلة باللغتين العربية والانجليزية.
الأعياد وطقوسها
كانت للأعياد نكهة خاصة. كانت أجراس الكنائس تقرع في منتصف ليلة أول أيام العيد، وعلى ندائها نذهب للكنيسة لنصلي. وكان البعض يحمل (لوكسا يدويا) يعمل بالبطارية يضيء به الطريق. وكنت أنا أدق جرس كنيسة الكاثوليك أيام الآحاد في إيقاع خاص علمني إياه خوري الكاثوليك الأب يعقوب البواب (والد الدكتور حسني).
بعد صلاة العيد في منتصف الليل، نعود للمنزل، وتنهض جدتي مبكرة، تحمص القهوة (بالمحماصة) التي صنعها لنا عمي ابو نايف الحداد الماهر المقيم في قرية الرفيد في الكفارات، الذي كان يزورنا بين فينة وأخرى محملا بشيء من صنعه. وبعد تحميص القهوة أساعد في طحنها بمطحنة يدوية، وتكون قهوة العيد خشنة، ثم تغلى على النار مع حب الهال. في الصباح كنا نوقد النار في منقل الفحم، وبعد ان تتوهج، تصف حولها (دلات) القهوة الثلاث الصفراء اللامعة، لتبقى ساخنة. دلات القهوة هذه لا تزال في منزل والدتي حتى الآن، وكان والدي أوصى عليها أحد تجار المفرق الذي أحضرها من دمشق.
كنا نستيقظ في الصباح ونقّبل أيدي والدينا وجدتي ام سليمان (ام والدي) التي كانت تعيش معنا، ونعايدهم، ويعايدونا بحلويات يوزعونها علينا، منها (ملبس على قضامة، وملبس على لوز، وتوفي، ومخشرم، وكعكبان). وكانت الوالدة والجدة تصنعان لهذه المناسبة الكعك المحشو بالعجوة في العيد الكبير (الفصح)، والغرّيبة في العيد الصغير (الميلاد)، وبمناسبات أخرى كن يصنعن العوامة و»أصابع زينب» المحشوة بالجوز. وكنت وأخوتي نلتف حول الطبلية نضع عليها العجوة وندحبرها على شكل حبال طولية توضع داخل الكعكعة.
كنت أرتدي بذلة العيد وحذاء جديدا. وكان من أصول الضيافة أن يترك باب الدار الخارجي مفتوحا على مصراعيه لمدة ثلاثة أيام العيد. ويبدأ أصدقاء الوالد يتوافدون فرادى وجماعات، مسلمون ومسيحيون، يقرعون الباب ويدخلون على الرحب والسعة وهم يسلمون قائلين (كل عام وانتم بخير) الى غرفة الصالون التي تفرش بالبسط المخططة بألوان مختلفة . كانت مهمتي ان استقبل الضيوف عند البوابة، وأقودهم الى غرفة الصالون (المكتبة) فيستقبلهم والدي الذي يكون جالسا مع ضيوف سبقوهم، ثم أدور عليهم بالقهوة السادة، فأتناول دلة القهوة (الإبريق) المصنوع من النحاس الأصفر اللامع من على منقل النار، واصب القهوة في فناجين القهوة السادة، وأكرر الصبة في انتظار ان يهز الضيف فنجانه. ثم أقدم الحلوى من علبة توفي انكليزي ماركة (بالم - أي النخلة) والكعك المحشو بالعجوة. وتمتد زيارة العيد بين 20-30 دقيقة، وربما أقل حين تحضر مجموعة جديدة من الضيوف، فينهض من سبقوهم ويخلون المقاعد ويغادرون الى بيت آخر. وكنت مع أصدقائي ندور على بيوت الجيران وندق الباب ونقول بصوت مرتفع: «كل عام وانتم بخير»، فيقدمون لنا حبات الملبس، وتمتلئ جيوبنا به . وكانت دائما هناك مخصصات من الملبس للصغار الذين يعايدوننا من ابناء الجيران.
الزبالة بالطمبر
على مسافة قصيرة من الملعب البلدي مقابل شركتي الباصات على الطريق للقاعدة، كان يقع مكب النفايات. كانت الزبالة تجمع (بطمبر) يجره بغل. وكان (عامل الوطن) رجلا ضئيل الحجم أسمر اللون يرتدي حطة سوداء على رأسه، وكان يدور على المنازل (بطمبره) ويدق على الأبواب، وحين يرد عليه ساكنو المنزل يرد قائلا: «زبالة»، فيخرجون له تنكة الزبالة فيفرغها بالطمبر ويعيدها، وحين يمتليء الطمبر يذهب به ممسكا برسن البغل سائرا باتجاه المكب الذي كان معروفا لسكان البلدة باسم «المزبلة». وكان يشعل النار بالزبالة فيتصاعد دخان ما يحترق منها. وأحيانا كان عامل الوطن يستخدم الطمبر لنقل التراب من الجبل، لموقع ما، لصنع لبنات لبناء منزل ما، مقابل أجر يتفق عليه.
الرأي