عمان .. مسافات شاسعة ويد خفية
سامر حيدر المجالي
08-08-2008 03:00 AM
جلستُ أمس في أحد المقاهي محاولا أن أجد شيئا ذا قيمة في عيون الناس وتعبيرات وجوههم . كان المقهى ممتلئا عن آخره ، بالكاد وجدت طاولة صغيرة في وسط المكان فألقيت عليها فراغي ولهوي ورغبتي في تمعن الوجوه واستقصاء سرائر أصحابها .
تحتاج إلى جهد كبير كي تفهم لغة الوجوه إذا كنت لا تنتمي إلى جيل أصحابها . كان أكثر الجالسين حولي من فئة الشباب اليافع ، من الواضح أن أكثرهم من طلبة المدارس الثانوية أو سنوات الجامعة المبكرة . لا شيء جديدَ في وجوههم يلفت الأنظار ، إنهم ممتلئون فرحا واقبالا على الحياة ، جلساتهم مختلطة ، يضفي تواجد الجنس اللطيف عليها مزيدا من الجاذبية والجمال .
لفتت إنتباهي أحد الصبايا اليافعات ، كانت تسحب دخان أرجيلتها فتبثه في كأس فارغ أمامها ثم تحاول أن تحبسه داخل الكأس بيديها ، أو تنفثه في حين آخر عبر مصاصة بلاستيكية ( شلمونة ) في وجه زميليها الجالسين أمامها . كانت تصرفاتها عبثية إلى أبعد حد ، لكنَّ في عبثيتها ما يبث فيك حنينا من نوع خاص ، ورغبة في العودة إلى أيام الشباب والإستمتاع بطيشه وخفته . هؤلاء الشباب لا يختلفون عنا كثيرا ، هكذا أردت أن أقنع نفسي ، كنا مثلهم لا نعرف قيمة الوقت والسنوات ونحسب أن العمر سيبقى ربيعا زاهي الألوان . كنا كذلك نقوم بنفس التصرفات ، ونعبث بكل شيء حولنا . صحيح أننا لم نكن نخرج من أسوار الجامعة ، ولم نعرف المولات والكوفي شوبات طيلة فترة دراستنا ، إلا أن تعابير المودة والرقة التي تكسو الوجوه عند اشتراك الجنسين في جلسة واحدة هي نفسها ، والحواجز التي كنا نحاول تكسيرها كي نزرع الإطمئنان في نفس الجنس الآخر هي ذات الحواجز . هؤلاء الشباب ليسوا اجرأ منا ولا أكثر إقبالا على الحياة ، هم فقط يمتلكون مقدارا أكبر من الصياعة ، عالمهم منفتح وألوانه أكثر جذبا للأنظار .
حاولت أن اتأقلم مع جلبة المكان وضوضائه ، ضايقتني كثيرا الأصوات المختلطة والضحكات والقهقهات . غير أن ما ضايقني أكثر تلبد الجو بدخان الأراجيل الذي كان يأتي من كل اتجاه . فعلى كل طاولة عدد من الأراجيل بعدد الجالسين عليها ، وهم ينفثون ما لاحصر له من الدخان ذي النكهات المختلفة ، بالليمون والعنب والتفاح والتفاحتين والسوس وغيره وغيره . ما سر تعلق هؤلاء الشباب بالأرجيلة ؟ لماذا أصبحت متطلبا أساسيا لا يمكن الإستغناء عنه في مثل هذه الجلسات ؟ هل يبحثون فعلا عن الكيف ؟ لا أظن أن الأرجيلة تمنح صبية في مقتبل العمر كيفا أو شعورا بالسعادة . الناس يميلون الى التقليد واتباع ما يرون الجمهور مقبلا عليه ، لذلك أصبحت الأرجيلة مظهرا اجتماعيا خاليا من المضمون ، وتقليدا درج عليه الكثيرون . هي صديقة من يحاول أن يسبق مرحلته العمرية ، أو يقتل وقتا هو كتلة من ( اللاشيء ) . الأرجيلة موضة حينا ، وسخط على الدنيا حينا آخر ، وهي كذلك ملجأ لمن يحب أن يرى شكل زفراته ، عندما لا يمتلك الانسان تجاه همومه الا أن يبث زفرات تلو زفرات .
تبدل شعوري تجاه المقهى بعد أن بلغ التلوث الصوتي حده وأطبقت ( عَجّة ) الأراجيل على المكان . كان هناك الكثير من الرواد الواقفين ينتظرون خلو طاولة كي يجلسوا عليها ، قررت أن اشاكسهم وأبقى في مكاني ، هكذا من أجل ( الدقارة ) فقط . على فكرة ليس هذا هو المكان الوحيد المزدحم في عمان ، فكل شيء يعاني من الإزدحام . أصبح الإزدحام ظاهرة يجب دراستها . كلما دخلتَ مطعما وجدتَه ممتلئا ، أو سوقا عاما لم تجد موطيء قدم فيه ، حتى على محطات الوقود تقف في طابور طويل بانتظار أن تملأ سيارتك بالبنزين ، علما بأن أسعار البنزين لا تخفى على أحد منكم ، وأسعار المطاعم أقرب الى النهب منها الى أي شيء آخر . استغرب كثيرا كيف أن وجبة شعبية كالحمص والفلافل تكلف الشخص الواحد أربعة دنانير في عمان الغربية ، ومع ذلك تجد المطاعم مزدحمة ، وعائلات بأكملها جاءت لتناول وجبة العشاء ذات التكلفة الفلكية . صحيح أن هناك نسبة من المغتربين وطبقة من الموسرين ، غير أن هذا لا يفسر الازدحام الهائل الذي تشهده هذه الأماكن . هل يتم تضخيم الصورة البائسة للمواطن الأردني ؟ أم أن عمان خرجت من دائرة المنطق ولم يعد بإمكان المرء أن يفسر أي شيء يجري على أرضها ؟ من المؤكد أن هناك ( يدا خفية ) تدير هذا المجتمع وتحميه من تقلبات الزمان ، هذه اليد الخفية هي رعاية الله ولطفه بعباده ، نحن – معشر المؤمنين – نفهم اليد الخفية هكذا ، ولا ندور حولها دون أن نجرؤ على تسميتها باسمها الحقيقي كما فعل آدم سميث وتلامذته من بعده .
غادرت المقهى أخيرا ، توجهت إلى سيارتي ودخلت في أزمة سير خانقة عند تقاطع الجاردنز مع شارع المدينة المنورة . رغم الزحام الهائل إلا أن مكوثي ضمن الأزمة لم يطل فقد كان رجال السير يؤدون مهمتهم بكل كفاءة واقتدار . ما أجمل منظرهم وهندامهم ، إنهم لا يقارنون أبدا بالذين نراهم في بلدان أخرى . أوقفني أحدهم فجأة ، نبهني بكل أدب وهدوء الى أن الحديث في الهاتف الخلوي ممنوع أثناء القيادة . نظرت إلى وجهه فاذا هو شاب أكبر قليلا من أولئك الشباب الذين رأيتهم في المقهى . سألت نفسي إن كان هذا الشاب قادرا على الاستمتاع بوقته في كوفي شوب عند انتهاء وظيفته ، أو هل تمكنه ظروفه المادية من الخروج وعائلته لتناول وجبة العشاء في أحد المطاعم التي حدثتكم عنها . لم أرد أن أعرف الإجابة على سؤالي ، حتما ستكون مؤلمة . فشكرته على لباقته ومضيت في طريقي ......
Samhm111@hotmail.com