كانوا يسمونه شرق الأردن، والأردن للعلم ليس هو النهر، فالنهر اسمه «الشريعة» ولا يزال الرعيل الأول ومن درس في جامعاتهم الوطنية يعرف ذلك، بل إنها الأرض التي سكنها الأردنيون منذ آلاف السنين واستوطنتها القبائل والعشائر والعائلات في البوادي والقرى والمدن قبل مئات السنين، حيث كانت هذه البلاد موئلا للأحرار والفدائيين والغرّ الميامين، قليل من التجار وكثير من العُمّار، وبعد الثورة العربية إبان خروج الأتراك من بلاد العرب، وحدهم الأردنيون من احتضنوا رسالة الثورة واستقبلوا عالمهم الجديد، دولة ناشئة وجيش متواضع وحكومة مصغرّة وأمير مؤسس وخليط قومي عربي من الحكام والموظفين.
وحدهم الأردنيون هم من آمن بأن العرب أمة واحدة لا فرق بينهم في الدين والمنبت والطائفة والإقليم، فتداور رئاسة الحكومة أسماء كثيرة، لم يكن بينهم قادم من أي قرية أردنية، فكان رشيد طليع القادم من جبل لبنان أولهم حتى كان سمير الرفاعي وسعيد المفتي و فوزي الملقي و هزاع المجالي، ثم وصفي والتاريخ بعدهم معروف ، كانت هذه الأرض حضنا دافئا وقلبا رؤوماً ، ورجال يعرفون الأرض وأهلها شبرا بشبر واسما باسم ، وحملوا مواثيق الثورة وعهد الدولة والحفاظ على مكتسباتها ومقدراتها منذ التأسيس حتى الترسيخ ، يحميها الله ثم جيش لم ينكص على أعقابه في أي ملمة أو حرب، فقاتل رجاله ببسالة كي يبقى هذا الوطن آمنا كما وجده اليوم من جاؤوه مستبشرين.
خمسة وتسعون عاما مضت على تأسيس هذه الحاكمية هي عمر الدولة، حيث كانت خمس سنوات من قبلها هي مخاض الثورة ، وعندما انتهى الأمير المؤسس عبدالله الأول من مقامه في جنوب البلاد، وصل الى محطة زيزيا، الجيزة اليوم، واستقبله فيها شيوخهم وزعامات المنطقة، حين كانت عمان قرية فاصبحت دولة، فكانت سهول زيزيا حقولا لخيول القادمين من قلب التاريخ وشغاف الأرواح المتبتلة، من مكة المكرمة سائرين على درب من سبقهم لتأسيس دولة الحلم، فلم يأذن الله إلا لهذا البلد أن يكون دولة الإرث القومي العربي الذي أصبح دوحة كبرى يستظل فيها من نراهم اليوم من أطياب العرب، ومضطهديهم ولاجئيهم أيضا.
اليوم يقود جلالة الملك عبدالله الثاني الدولة الى عهد جديد، يختبئ مستقبله في علم الله، ولكن يجب أن يكون واضحا في عقول أهله ورجاله ومسؤوليه وكبار رجال دولته، يجب أن يكون القرن الثاني من عمر الدولة بعد خمس سنين مؤسسا على قواعد جديدة، متطورة وفاعلة نحو تجديد دم الدولة وبناء مستقبل أكثر إشراقا وتفاؤلا، يكون لجميع أبنائه دور في التخطيط والبناء من خلال مؤسساته الدستورية والحكومية ، وهذا لا يتأتى إلا عندما نتخلص من عقلية المصلحية الخاصة والعائلية الضيقة والمناطقية، ليكون النائب ممثلا حقيقيا للشعب والمسؤول مؤمنا بأن الله سيحاسبه والتاريخ سيشهد له أو ضده.
لا يمكن أن ندلف الى عمر جديد لهذه الدولة إذا لم نكن يدا واحدة وعقلا واحدا واعيا ومستنيرا، متكاتفين لتحقيق غايات بناء الدولة المتمثل في ديمومة ارتقائها وبنائها ، والتخلص من الاعتماد على الغير بالاعتماد على أنفسنا، وهذا يتطلب إعادة الثقة في المؤسسات من خلال اختيار الأكفياء لقيادتها، وإعادة إصلاح النظم السياسية والقانونية والإدارية وتطويرها لتواكب الزمن القادم المشبع بالقفز الإلكتروني عبر فضاء العالم، وهذا يستوجب إعادة إصلاح التعليم ابتداء من مرحلة التأسيس لنواكب تطور العالم الجديد.
لقد صنع لنا الآباء المؤسسون دولة نتفاخر بها اليوم، وأقاموا أركانها على تواضع تعليمي وفقر في الموارد وشح في الأموال ، ولكن السرّ في ذلك، أنهم كانوا مخلصين ونزهاء وليس لهم غاية إلا العمل الخالص والمُجد، فكان اختلافهم على رؤاهم في كيفية العمل لتحقيق الغايات العامة وتنافسهم على تحقيق المصلحة العامة، والحفاظ على الدولة وحقوق المواطن، وحماية أمن الأرض والإنسان، فكانت الزراعة والصناعة والتعليم أركانا رئيسة في ذلك الوقت، فأين هي اليوم.
دولتنا الماجدة عمرها قرن، ونحتفل بالأعياد الوطنية المجيدة كي يعرف ويفهم الأطفال والشباب تاريخهم وتاريخ أجدادهم، ويتعلموا كيف صنعت هذه الدولة وقامت بفضل القدوة الحسنة لقياداتها، وهذا ما يجب أن نكون عليه نحن الذين نشبعهم نظريات، علينا أن نكون قدوة حسنة في البناء لا الخواء.
الراي