كانت تشبه القطار بكل شيء؛ الضخامة، طريقة التشغيل، الهدير ، الاّ ان القطار يأكل المسافات ويقطع الدروب، وهي شهيقها شمس»الحنطة» وزفيرها «قشّ» الغروب، قمع كبير يتم الصعود إليه بأربع درجات من الخشب ،وقشاط ضخم على طول السرداب ،يبدأ بالدوران وتحريك مسننات المطحنة ، أعشاش من الحمام البلدي في الطوب القديم بأعلى المكان ، وعناكب في الزوايا المعتمة، خيطان من غبار الطحين تكوّنت على «لمبة» بيضاء خفت نورها، و»خابية» ماء لعابري السبيل وللمنتظرين دورهم في الطحين..
المطحنة القديمة «معدة» المدينة التي تهضم كل المحاصيل وتطحن كل الحبوب ، عشرات من أكياس الخيش تنزل يومياً الى جوفها فتخرجه طحيناً ساخناً يسند الفلاح ظهره إليه ليلين تعبه ويطمئن خزينه،ومن يحضر متأخراً يغمس قطعة خشب بالحبر السائل الأسود المرفوع على مسمار في جدار المطحنة ويكتب اسم صاحب «الطحنة» أو إشارة لتميزه عن غيره..يجلس المنتظرون دورهم حتى يتلقوا إشارة بتقريب الأكياس، يرسمون بأصابعهم على غبار القمح النازل تحت شفاه الطاحونة يضحكون يدخنون ويتفقّدون دوابهم في الشارع الضيق ...الحديث لا يتم الا برفع الصوت فلغة القمح تحتاج هديراً مثل صوت الريح في السهول ، ومثل حداء الحصادين وضرب المناجل...القمح لا يحب الوشوشات هو يريد نداء عالياً يطرب السماء..
على يسار مدخل المطحنة ثمة أحواض مربعة من الباطون الأملس تفرغ بعض العجايز أنصاف أكياسهن فيه ، يقمن برش وجه القمح ببعض الماء حتى يفيق من غيبوبة الحصاد ،يقلبنه حتى يطاله القليل من البلل هكذا يتم تهيئته «للجريشة» أو كما يسمى في حوران «سميدة» و»رفيعة»...العدس له طريقة في «الجرش» والذرة كذلك، لكن كلها كانت تجري في مكان واحد «مطحنة البلد الوحيدة» ..بالمناسبة الحبوب تماماً مثل الأبناء كل له مزاج مختلف وقوام مختلف وسجايا مختلفة،الأمهات القديمات فقط من يتقن لغة القمح ويجدن التعامل معه..
قبل أسبوع زرت صاحب المطحنة فوجدته قد «نقض غزلها» من بعد قوة..واختصر القطار الطويل إلى قمع صغير ومزراب قصير ، أما الكهرباء فهي تتولّى باقي المهمة، فالمسألة لم تعد تحتاج إلى الكثير من عناء التشغيل..كنت احمل أكياسا ثلاثة ..كيس صغير «بسمتي» فيه قمح أريده للطحين ، وكيس «صن وايت» فيه قمح أريده «سميدة»، وآخر كيس «سيفوي» فيه 4 كيلو للرفيعة..سألت صاحب المطحنة بتعجب واستنكار ..ما الذي قلّص مطحنتك الى هذا الحجم يا خال !..ابتسم وأشار إلى يدي وقال : أكياسك يا خال!!.
الراي