صديقي ابو حسن الميكانيكي احتفظ بصداقته لي وحدي منذ سنين طويلة, خلافا للمعهود عني في حرصي على تقديم اصدقائي الجدد لاصدقائي القدامى وهكذا، لكن صداقتي بابو حسن الميكانيكي امتازت بالخصوصية منذ البداية لسببين الاول: انه يتقن كل شيء باستثناء (الميكانيك), وبالتالي لا يصلح ان أقدمه لأصدقائي بهذه المهنة والا(سود وجهي معهم) , ذات يوم سألته:(شو الي جابك على هالمهنة يا ابو حسن) قال:(اولادي الله يخليلك اولادك اشتروا المحل على اساس يلاقوا ميكانيكي يسلموه اياه وشو ما جاب المحل نعمة و فضل , ولما ما لقوا ميكانيكي حكولي شو رأيك بدال ما انت قاعد بالبيت تقعد في المحل لبين ما نبيعه فوافقت), حراسة يعني, (بتقدر تحكي هيك).
ابو حسن بشاربه الغزير ذي اللون الابيض المائل للصفرة وبشراهة تدخينه حكواتي من قافلة حكاءة الشام لديه خيال واسع الى اقصى مدى ولا يجد نفسه الا في هذا المدى الواسع وحتى يواكب زمننا هذا اضاف القليل من الكذب على رواياته, وهذا السبب الثاني لاحتفاظي بصداقته وحدي حتى لا يقال لي (شو هالكذاب الي معرفنا عليه), ان جئته كميكانيكي عبس في وجهك وقال: (هاي السيارات مش اختصاصي شوف جاري ممكن بعرف الها) اما ان جئته زائرا رحب بك بابتسامته العريضة واشعل (البابور) من تحت ابريق الشاي وافسح لك من بين ركام المحل فسحة للجلوس واخفض من صوت مذياعه القديم -الذي حط بلا رتابة بين ركام من الخردوات على شبه طاولة من حديد- ليمارس عليك هوايته، ابو حسن (الانتيكة) كما سميته فيما بعد هو وجهتي كلما شعرت بالملل.
بقيت على هذا الحال حتى سكن بجواري احد معارفي القدامى الذين لا عطر لديهم يعلق في الذاكرة و الروح, تزامن ذلك مع الفوضى الخلاقة التى اصابت المنطقة او ما سمي بـ (الربيع العربي ), ومن سوء الطالع انه للتو قد تقاعد من عمله فصار يزورني بشكل يومي وفي كل الاوقات في الصباح وفي المساء بعد الظهيرة وقبل الظهيرة حتى في اوقات الدوام صار يزورني في مكان عملي ولا ينفك في كل زيارة عن الحديث عن الربيع العربي وما سيجلبه للعرب من عزة و كرامة ووووووووو الخ. حتى انني لم اعد استطيع تحمله فقد أصابني الضجر من مجاملته, لذا قررت ان اعرفه على صديقي ابو حسن فكلاهما ضالة الآخر, وهذا ما حصل بالفعل.
كانت هذه اثمن خدمة يقدمها لي صديقي ابو حسن.
وبعد مرور سنتين تقريبا عاد جاري (ما غيره) لزيارتي وكانت هذه الزيارة غير سابقاتها فقد جاء يشكو الي ابو حسن الميكانيكي ( يا رجل شو ابو حسن هاظ سنتين وانا صابر على كذبه و سخافته بس انه يفكرني مغفل وغبي هاي الي ما بتحملها) , (ليش شو عمل؟), (قال شو عمل قال, أي سولفني سولافه بستحي احكيها لأبني الي عمره خمس سنوات اسمع يا سيدي بحكيلي انه في يوم طلع للصيد وبعد ما تعب قعد على تله يدخنله سيجارة ولما اطلع تحت بالسفح والا فيه ذيبين بتهاوشوا وبعد ما اكدلي انه ما ادخل بينهم حكالي استمرت الهوشة حوالي ساعتين حتى اكلو بعض وبعدين نزل لقى على تاليهم ذيلين, فسألت ابو حسن طيب وين الذيب الثاني!! حكالي اكله الاول رديت سألته طيب يا ابو حسن وين الذيب الاول!! حكالي اكله الثاني بعدين عصبلك ابو حسن و حمرط وجهه وصرخ في وجهي : شو انت بتفهمش بحكيلك اكلوا بعض يا بني آدم وما ظل على تاليهم غير ذيلين). ثم قال لي:(بصير يكذب علي هيك كذبه سخيفة ما بتدخل العقل؟ لأ والكارثة انه بحكيلي اني بفهمش,انا بفهمش اخوي ايمن؟)
قلت: (آه انت بتفهمش)
جن جنونه فقام وغادر وهو يتمتم( الله اكبر حتى انت يا ايمن بتحكي اني بفهمش) ثم التفت الي عند حافة باب البيت وسألني بغضب (ليش بفهمش؟)
قلت: عجيب أمرك يا صديقي أأغضبتك كذبة قالها رجل ساذج بسيط -لم تصدقها اصلا- خلفت وراءها ذيلين, ولم يغضبك ويهز كيانك كذبة -كنت قد صدقتها سابقا- روجت لها النخب تدعى الربيع العربي خلفت ورائها الآف من اذيال الخيبة!