سايكس بيكو: مائة عام من التقسيم والخيبة!
د. زيد نوايسة
22-05-2016 08:50 PM
على أبواب المئوية الأولى لاتفاقية سايكس وبيكو التي رسمت ملامح المنطقة بعيد انهيار السلطنة العثمانية التي أوغلت في البشر والحجر والحضارة لتنتقل الامة من مرحلة الاحتلال العثماني الذي استمر ما يقارب الأربعمائة عام بكل ما لها وما عليها الى مرحلة الهيمنة الفرنسية والبريطانية بعد خروجهما منتصرتين في الحرب العالمية الأولى.
الاتفاقية الشهيرة التي أسست للحالة التقسيمية التي نعيش تداعياتها وافرازاتها ارتبطت بالدبلوماسيين مارك سايكس البريطاني وجورج بيكو الفرنسي اللذين صاغاها ووقعاها بتاريخ السادس عشر من شهر أيار لعام 1916، كان الكبار يتصارعون على التركة العثمانية ويسعون لتقاسم النفوذ على مصادر الطاقة والمنافذ البحرية والثروات؛ حينذاك لم يكن هناك جغرافيا سياسية وحدود موثقة ولم تكن الحدود الحالية والشرق الأوسط تحديداً موجوداً بصيغته الحالية باستثناء مصر التي كانت دولة مستقرة جغرافياً الى أن طالها التغيير لاحقاً عندما خرج السودان من ولايتها، الاتفاقية السرية بين الدولتين الكبيرتين بريطانيا العظمى وفرنسا وبمباركة من الإمبراطورية القيصرية (التي انهارت لاحقاً) نصت على اقتسام المنطقة (الهلال الخصيب) مع ترك مدينة القدس ومدينة الموصل لترتيبات لاحقه بينهما ليتبعها بعد اشهر الوعد الشهير لوزير الخارجية البريطاني "بلفور" بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
ظل التفاهم بين فرنسا والمملكة المتحدة وبمصادقة من الإمبراطورية الروسية آنذاك على اقتسام الهلال الخصيب سرياً حتى عن المشاركين في المباحثات من البريطانيين والفرنسيين ليتم كشف التفاصيل والمفاوضات لاحقاً بعد سقوط النظام القيصري في روسيا 1917 واستيلاء الثورة الشيوعية على محاضر اجتماع "بتروغراد" الشهير في شهر شباط من سنة 1916 بين سايكس ووزير خارجية الإمبراطورية القصرية سيرغي سازونوف.
تمر المئوية الأول والمشهد العربي قاتم ومفتوح على كل النهايات، ونجد أنفسنا مضطرين لطرح السؤال الكبير والمركزي هل نحن بالفعل أمام مشروعات تقسيمية جديدة يجرى صياغتها حاليا بصيغ جديدة تتناسب مع التغيرات التي حصلت خلال مائة عام؟
المؤشرات والصراعات القائمة ميدانياً تشي بأننا مقبلون على تقسيم آخر ولكنه مختلف عن سايكس بيكو، إذ يمكن أن يكون الشكل الجديد أو سايكس بيكو الجديدة، لا يقر حدوداً جغرافية فاصلة كما جرى في الاتفاقية الشهيرة، وقد نجد أنفسنا أمام بقع جغرافية متناثرة ومفتتة تستند الى مرجعيات فئوية ومذهبية وأثنية متناثرة ومنقسمة داخليا، يتقاسم مواردها ومواقعها وامتيازاتها ومستقبلها ومصالحها اللاعبون الدوليون الجدد الأمريكي والروسي، والشركاء الإقليميون وعلى رأسهم بالتأكيد الكيان الإسرائيلي والتركي وربما الإيراني اذا تعزز وجود التيار الإصلاحي في طهران، إذن نحن امام مشهد مفتوح على كل الاحتمالات ولا يمكن للعقل ان يغفل أو ينفي ان هناك ما يجري الإعداد له في هذه اللحظة التاريخية الفارقة من تاريخ الأمة المنقسمة على ذاتها وعلى حاضرها ومستقبلها، فالمنطقة يعاد صياغتها من جديد بدءاً من السودان وليبيا مروراً بمصر وصولاً إلى العراق وسوريا، وصولا إلى اليمن جنوبا، مع الإقرار بأن الرابح الإقليمي الأكبر هو الإسرائيلي الذي اصبح بالنسبة للغرب والعالم بل ولجزء كثير من العرب الذين خرجوا على انظمتهم وكسروا هيبة أوطانهم حالة حضارية مستقرة تغني المنطقة وفسيفسائيته وتنوعها بالرغم من انه أسوأ احتلال عبر التاريخ!
اليوم وبعد مائة عام من تلك الاتفاقية المشؤومة، والتي صنعتها القِوى الاستعمارية القديمة التي تراجع دورها لصالح المستعمر الجديد وبأشكاله المختلفة في الأدوات والأساليب والذي لم يكن صاحب دور وتأثير عندما صيغت تلك الاتفاقية؛ نقرأ المشهد العربي بمرارة والم والأمة سائرة الى إعادة تقسيم وتشكيل بين القوى الكبرى دون ان يَعي العرب خطورة ما يُحاكُ ضدّهم من مخطّطات ومؤامرات رهيبة قائمة على إذكاء نار الفتنة بين أبناء الأمّة الواحدة من سُنّة وشيعة وعرب وأكراد ومسلمين ومسيحيِّين خدمة للمشروع الكبير والذي تتعزز فرصة كل يوم بفعل الهزيمة والضياع والانهيار العربي البلانهاية والبلا ضوء في نهاية النفق الفتنوي الأسود الذي ضرب الامة في نخبها قبل العوام، فلقد أضحت أمتنا بكل مكوناتها مشلوحة في عراء الفتنة والانقسام، وأن حدودها الجديدة لن تكتب بالحبر الأزرق كما كتبت ذات زمان مضى في قصر "لانكستر" اللندني الشهير قبل مائة عام بل تكتب اليوم بالدم العربي المسفوك بقرار امريكي اوروبي إسرائيلي تركي وايراني وباستجابة وتمويل عربي سخي كانت الأمة أحوج إليه لفقرائها الذين طحنهم الرعب والخوف والفقر والجهل والحكم الابدي طمعاً بالاستقرار الذي ثبت انه مجرد وهم؛ ولو تم توظيف تلك الأموال في مشاريع التنمية والتعليم والصحة لكان حال الامة وأهلها أحسن الف مره ولما تعززت عوامل التفرقة والطائفية والمذهبية والجهوية التي كشفت عن أسوء ما في العربي من بشاعة ودموية رغم كل هذا الموروث الهائل الذي غرس فينا عن العربي الشهم المؤمن بعروبته والشهم المترفع عن الأحقاد والطائفية والمذهبية والجهوية والتي جاءت الأحداث لاحقاً وبعد ما سمي بالربيع العربي لتكشف هشاشتنا الوطنية وزيفنا وخديعتنا الكبرى!
وسيظل معقوداً على الأمة وشرفائها على ان ينحازوا لأمتهم التي ظلت تقاتل عبر مائة عام من أجل إسقاط حدود سايكس بيكو أملاً بدولة الوحدة من الماء الى الماء، لتصحو على الخيبة الكبرى وهي الحفاظ على تلك الحدود بالحد الأقصى وهي غاية المنى والمشتهى من غاليات الاماني، أذا كنا امام خروج أصبح شبه مؤكد من جغرافيا سايكس بيكو نأمل أن لا نخرج من التاريخ وتختزل صورة خير أمة أخرجت للناس بصورة العصابة الداعشية الابشع!