جماليات ومكانة المكان في رواية" صخرة نيرموندا لبكرالسباتين
د. عمر ربيحات
16-05-2016 02:54 AM
لمناقشة جماليات ومكانة المكان في هذه التحفة الأدبية، رواية "صخرة نيرموندا" لبكر السباتين؛ سنذهب برحلة مكانية تاريخية معها، الرواية اليافاوية بكل تفاصيل المكان فيها.
وأول عتبة نعبرها نحو المكان هذا العنوان المكاني الذي اختاره بكر السباتين صخرة يافا "نيرموندا" الأسطورية، فكأني به يقول إن من رسالة الأدب أن يخلد المكان ويبقيه حياً عصيّاً على النسيان، والحقيقة أن السباتين قد أبدع وأدهش في هذا الجانب من التخليد والوصف الدقيق والإلهام بالواقع لمدينة يافا، وأظنه قد أعاد لمن بقي على قيد الحياة ذاكرة الخلود لهذه المدينة الساحلية ولمن عاصر وعايش تلك الحقبة من عمر تلك المدينة الخالدة وبالعودة إلى العنونة فالصخرة مكان يعرفه كل اليافويين، أما الدلالة الكامنة في الصخر فهي القوة والصلابة والحماية التي تمنحها لمن جنحت بهم الأقدار في بحرها اللجي، كما أنها حماية الذاكرة واستعادة التاريخ الذي مات في نفوس من رحلوا أو توالدوا بعد عام (48).
أما الحضور الآخر لصخرة نيرموندا ففي المتن الروائي وحركة الشخوص داخل الرواية خاصاً بذلك بطل روايتنا سعد الخبايا الذي يلجأ لها كلما ضاقت به الأحداث فيستمد من صلابتها قوة خارقة لمواجهة الحياة يقول : "كلما ستأجج الموج المراوغ يلوذ إلى معشوقته نيرموندا مسترخياً على صدرها". وفي موضع آخر يقول : "يستشعر بأنفاسها المعبقة بأريج البرتقال، تداعب أحلامه فيدفن خوفه، ليبتلعها الرواة من جديد ... فيشعر كأنه امتلك الدنيا".
وإذا ما عرجنا إلى دواخل الرواية نجد هذا الحضور الكثيف للمكان بكل تفاصيله، ولا أبالغ إن قلت أن المكان قد شكل أكثر من ثلث المبنى الروائي بحرفية عالية قل نظيرها، ولا يمتلكها إلا كتاب كبار، فكان المكان هو العمود الفقري الذي بُنيت عليه الرواية وإن كان الزمان حاضراً فيها فحركة الشخوص وأبطال الرواية يدورون في فلك المكان أكثر منه في المبنى الزماني للرواية، رابطاً ذلك بخيط السرد المتواصل الذي ما أن ينتهي من مكان حتى يدخلك في مكان آخر، متوسلاً بالمكان كعلل سردية لمتابعة القص.
ومن الأمور اللافتة في إبداع بكر السباتين ذلك التعليل المنطقي لارتباط المكان بشخوصه فالأميرة "نيرموندا" هي بلقيس معشوقته، يلجأ إليها حالماً بلقائها؛ لينعكس جمال المكان على نفس سعد الخبايا ، فيصبح المكان معادلاً موضوعياً لأبطال الرواية، أو يمنعهم هدْأت النفس والشعور بالأمان، يقول : " فيلتقي أميرته، ثم ينيمها في ذاكرته كأنهما عاشقان، ربما كان ينتظر امرأة تحل محلها بكل ما تتمتع من قوة وجمال، فكانت شمس روحه بلقيس" لتنعكس هذه الإحيائية على ذات سعد وتعيد لنفسه الهائمة السكينة والاطمئنان. فيصبح المكان ملاذ الإنسان للهروب من الواقع المر الذي يعيش.
لقد تمكن بكر السباتين من وقفاته الوصفية تمكناً ملحوظاً لمن يطالع هذه الرواية ليوقع المتلقي بوهم الواقع (الإلهام بالواقع) وينقلك إلى عالم (بلزاك) أو نجيب محفوظ ليصبح المكان بؤرةً للسرد ومنطلقاً لوجهة النظر، فها هو مسجد أبو نبوت الواقع أمام برج الساعة وسبيله الذي بدا عاليا وقوسه المجوّف الهائل الملتصق في جدار المسجد، يقصده السابلة لشرب الماء، هذه الوقفة يتبعها مباشرة بمسجد آخر هو مسجد السكسك. وهكذا ما أن ينتقل بشخوص روايته من مكان ليدخلك في مكان آخر، يجعل من حفريات ونقوش المكان شواهد على الزمان وأحداثه وحركة الحياة في ذلك الحيز المكاني والمساحة الممنوحة له.
أما انعكاس المكان على شخوص الرواية فجليٌ ظاهر، الطفلة البريئة التي تنتظر مصيراً كارثياً تنظر إلى الطيور الحبيسة في الأقفاص رابطةً مصيرها بها، ليعتلُ الحزنُ فؤادُها إلى ذلك المصير المشترك، ولا أعرف إن كان بكر السباتين قد طالع جماليات المكان ( لباشلار) فيعكس تلك الرؤيا للأماكن المغلقة التي توحي بالحزن والكآبة والقلق النفسي المنعكس على السكاكين، وهذا بحر يافا الجميل يقذف الخطر ويطوق رقاب أهل يافا بالمشانق والضيق، وإنك لوهلة تستغرب هذه المفارقة في التوظيف لدلالة البحر المنسرح المفتوح على الآفاق، إلا أنك تعود إلى رشد الدلالة إذا ما عرفت أنه يقذف بالمستوطنين اليهود، فيصبح البحر مصدراً للحزن والخوف بدلاً من العطاء والخير الوفير.
ولا غرابة أن قلنا أنّ هذه الرواية تنضمُّ إلى تيار التسجيلية الذي يرصد المكان وأحداثه فلا يترك صغيرة أو كبيرة إلا ويوردها، فكأنه يحفر في ذواتنا مشاهد لم نرها لكن ندركها أو نتعرف عليها من خلال هذه التسجيلية وأضرب لذلك مثالين، الأول لربط التاريخ بالأحداث من خلال المكان والثاني في إقحام المكان للتعبير عن أمر آخر.
يصف بكر السباتين سبيل أبو نبوت في معرض حديثه عن الطفلة اللغز يقول : "فيما كانت هي ساهمة النظر في انهيال شلال الماء وهو يخترق مركز السبيل الحجري، من خلال فتحة توسَّطت الزخارف المتماثلة لسبيل الماء، المظلل برواق مرتفع شيد على الطراز العثماني بمقرنصاته وألوانه الباهتة، فيصب الشلال الواهن في تجويفٍ حجري مستدير وقد عقدت في زاويته سلسلة نحاسية، ربطت بكوب ماء من السيراميك الصيني" وإليك أن تتخيل الدلالات المستوحاة من هذا الوصف المكاني، الزخارف والرواق العثماني، الطراز البنائي الحجري وتجاويفه، والكوب السيراميكي الصيني، دلالات حضارية تسجل التطور والرقي العمراني الذي امتازت به يافا.
أما الجانب الآخر، ففي معرض تسجيله لما تنتجه يافا من خيرات، يقول:
"أخذها سعد - ويقصد برتقالات اليوسفي (دم الزغلول)- تأملها، رماها منفعلاً على الحائط الحجري من نوع الطبزة، فتخضبَ الجدار بلون (دم الزغلول)".
ألا ترى هذا الإقحام للحجر أبو طبزة في هذا الوصف، إنه تسجيل للطراز المعماري الحجري لبيوت يافا، وإنك إن تابعت السور تجد ذلك مقروناً بالحالة النفسية التي تسيطر على سعد الخبايا الذي قرن مصيره ودمه المسفوح كلون دم الزغلول.
ولا تعد هذه مثلبة في البناء الروائي بقدر ما تعد ميزة من ميزات السرد المتشظي الذي انتهجه رواد (تيار الوعي) والذي لجأ إليه بكر السباتين في توظيف ذكريات ودواخل نفس بطله سعد الخبايا من خلال (المنولوجات) الداخلية التي طوّف بها الأمكنة من خلال هذه الشخصية، حيث ستجلب الأحداث أمكنة وتواريخ ووقفات وصفية لكل ما يواجه.
وأخيراً فإن يافا حاضرة بكل تفاصيلها الدقيقة في هذه الرواية الشاهدة على بحرها وحركة السفنِ والبحارةِ وعمالِ مينائها العالمي، وبيوتها الحجرية المغطاة بالقرميد وأدراجها الداخلية المزينة بأصص الأزهار والياسمين، مساجدِها وكنائِسها وشوارعها وأسواقها وبياراتها وبساتينها وساحتها ومؤسساتها وطراز العمارة فيها ومحتويات دكاكينها. كل هذا شاهدٌ على جماليات المكان ونفخ الروح فيه من روائي فنان أتقن الوصف كما أتقن الرسم.
* أستاذ الأدب الحديث ونائب عميد شؤون الطّلبة في جامعة العلوم الإسلاميّة العالمية