ياسمين كانت طفلة.. فقدت جدتها نتيجة جرعة زائدة من الأمل وانفصلت أمها عن أبيها نتيجة جرعات زائدة من المخدرات التي صورت له أن العالم لا يستحق أكثر من نظرة ازدراء ...
لم تكن تعلم أن مباركة زواج أمها من رجل آخر سيجعلها في حضانة والدها ... سار الجميع خلف أمها إلى بيت العريس وسارت وحدها إلى بيت أبيها.
الصفع صار لغة التقبيل ... الشتم مجاملة فائضة عن الحاجة ... اللعنات تعودت عليها كحبات الأدوية المركونة بجانب فراش والدها ... كلما حاولت سؤاله عنها.
ندبات الجسد قد تزول مع الأيام... لكن ندبة في الروح لا تزول حين تصيبك في عقر طفولتك.. عصية على النسيان حين تكون ضربة موجعة من أقرب الناس إليك.
نهنهة الليل... رعشات الخوف... صخب الصمت... سعال الأب المتكرر وهو يضحك مع رفقاء أطاعوا هواهم وضاعوا ...
تآلفت مع محيطها.. ما عاد يُثير قلقها أعقاب السجائر ... والصحون المليئة بالتبغ والأوراق الصغيرة البيضاء.
والحمرة الدائمة لعيني والدها.. وتوقف الساعة عند التاسعة ... موعد سجائر الصباح التي أدمنت رائحتها وأدمنت ضحك أبيها الهستيري .
حتى وإن قبلت الأرض وذرفت خطاياك على عتبات السماء لن ينظر إليك أحد ولا أحد سيتألم عنك أو يحمل عنك جرحك .. فمواجهة الإنسان ضد جسده أصعب من مواجهة العدو الخارجي ... الذي لا يسعى إلى تحقيق النصر ... المهم بالنسبة له أن تظل الحرب قائمة ومستمرة.
قبلة أخيرة طبعتها ياسمين على جسد أبيها الميت بعدما أنهكته المدن المليئة باللصوص وقطاع الطرق ومحترفو الدعارة وتجّار المخدرات من كل حدب ينسلون.
***
أفيقوا بني قومي تحذير في زمن التخدير فالهاوية تحدق فينا..
في شوارع تباع فيها المخدرات كأكياس الحلوى التي توزع على الأطفال... الأطفال الذين يتنفسون العجز واليأس والشقاء الذي لا يحتاج إلى شهود ... فكل هذا في بلدي .
فالتوعية لا تكفي... والوطنية لا تكفي... والفن لا يكفي ...ولا حتى الحب يكفي لمواجهة هذه الطوفان من المخدرات التي تجتاح كل شيء من حولنا .. حتى تشابه الأمر علينا وصرنا لا نعرف من هو السليم ممن هو متعاطٍ في وطن يضيق حتى بأهله .
أفيقوا بني قومي فالفقد دمعة مباغتة... وجع ناصع السواد.. سحابة لا تحمل في رحمها إلا قليلا من الظل وكثيرا من الجفاف ... فأولادكم أمانة في أعناقكم لا تتركوهم حتى لا يكونوا كقطيع من الخراف الذي ينتظر دوره تحت السكين .
فياسمين لم تعش الحياة بل الحياة عاشتها بدءا من اللحظة التي خرجت فيها من نور الرحم إلى نهار كالليل يغشى عيون الناس ... فلا هم يُبصرون ولا هم يعتبرون !
Nahed19762002@yahoo.com