الرقم القياسي لتكاليف المعيشة لا يقيس التضخم الحقيقي في الاقتصاد الوطني، ليس فقط بسبب تقلبات أسعار المحروقات والمواسم الزراعية بل أيضاً بسبب الاختلالات الناشئة عن التدخل الحكومي المفاجئ بشكل دعم أو إعفاءات أو زيادات في الضرائب مما لا يسمح لعوامل السوق أن تتفاعل في مناخ طبيعي مستقر.
كنا في بعض الأحيان نعتبر الرقم القياسي لأسعار الجملة أصدق من الرقم القياسي لتكاليف المعيشة في قياس معدل التضخم الحقيقي، وكان هذا المقياس يعطي قراءات إيجابية معتدلة بعكس مقياس تكاليف المعيشة الذي أخذ يعطي قراءة سلبية تدعو للقلق.
الآن وقعنا في حيرة، فالإحصاءات العامة تقول إن الرقم القياسي لأسعار الجملة انخفض خلال الربع الاول من هذه السنة بمقدار 1ر5% عما كان عليه في نفس الربع من العام الماضي منها 6ر4% في الربع الأخير وحده.
في الاحوال الطبيعية يشكو الناس من الغلاء وارتفاع الأسعار، لأن المستهلك يريد الاحتفاظ بالقوة الشرائية لدخله، وبالتالي كان انخفاض التضخم مسألة إيجابية مرحباً بها.
لكن الأحوال اختلفت، فالاقتصاد الوطني لا يتحمل تضخماً سالباً لمدة طويلة لأنه يعني الركود والجمود، ومن نتائجه ارتفاع الأجور والرواتب في ظل انخفاض أسعار المنتجات، مما لا يذهب بهامش الربح فقط، بل يأتي بالخسائر أيضاً، كما هو حاصل في قطاع الصناعة حيث توقفت بعض الصناعات لأن أسعار البيع انخفضت عاماً بعد آخر بحيث لم تعد تغطي الكلفة.
وهنا نعود إلى البنك المركزي وما إذا كان عليه دور في التعامل مع هذا الوضع. البنوك المركزية تتدخل ضد ارتفاع معدل التضخم برفع سعر الفائدة لتقليل طلب المؤسسات على التوسع والاستثمار، فهل عليها أن تتدخل في حالة التضخم السلبي بتخفيض سعر الفائدة بقصد انعاش الأسعار؟.
إذا كان التضخم الإيجابي يعالج برفع أسعار الفائدة فربما كان منطقياً أن يعالج التضخم السلبي أي الانكماش بتخفيض أسعار الفائدة، وقد أخذت البنوك المركزية في أميركا وأوروبا واليابان بهذه الوصفة وذهبت فيها بعيداً لدرجة أن سعر الفائدة استقر بقرب الصفر لمدة سبع سنوات متوالية ووصل إلى معدل سالب في أوروبا واليابان، ولكن النتائج كانت مخيبة للآمال.
بعد قيام البنوك المركزية بخفض سعر الفائدة لمستوى الصفر وغمر الأسواق بالسيولة دون تحقيق النتائج المرجوة تولدت قناعة بأن البنوك المركزية ليست القوى الجبارة القادرة على صنع المعجزات كما يظن كثيرون، فقد فشلت في تحقيق النمو والقضاء على الانكماش الاقتصادي العالمي والبطالة.
الراي