في وقفة جرت مؤخراً في إحدى المدن الأستراليّة للتّضامن مع ضحايا المأساة السوريّة، والتي كان فيها تنوّع في الآراء من أستراليين وعرب ومسلمين. أبى الإسلاميّون إِلّا أن يختطفوا هذه الوقفة التضامنيّة النظيفة، وانقضّوا على الميكرفون بأسلوبهم الإقصائي المُنفّر، وهو مشهد يذكّرني بما يجري في العديد من الفعاليّات الشعبيّة المنادية بالإصلاح في الأردن- كواحدة من الأزمات الكثيرة التي يعاني منها.
وإنّني وإذ أتابع المشهد الأردني من غربتي، يعتريني شعور بالسوداويّة لرؤية وطني "التايتانك".
لم يعلم من هم في بطن سفينة التايتانك بأنّها على وشك الغرق، ولكن من كان يراقبها من بعيد أدرك حجم الكارثة.
لا نريد كارثة أخرى، فالكابتن يستطيع أن يتفادى جبل الجليد، الذي يراه المراقبون من بعد!
نحن على اليابسة نراكم من بعيد بينما أنتم مقبلون على الغرق.. هذا نداء لأجهزتكم الذكيّة، علّها تلتقط الإشارات المتكرّرة!
فالخطوات متخبّطة، والرؤى ضبابيّة، والقرارات سريعة ومجهولة الغايات، ومحاولات الإصلاح لقوانين جائرة باءت بالفشل، والأشقّاء يقاسمون شعباً فقيرا لقمة عيشه وهو الذي يعاني أصلاً من شحّ الموارد، والإعلام هزيل ولا تحكمه المعايير المهنية العالية ولا الأخلاقيّات، إلخ..
وعلى سيرة الإعلام، هل يعتقد القائمون على الإعلام الموجّه أنّهم بهذه الطريقة سيعزّزون من مفهوم المواطنة الحقيقيّة، وكأنّ المتلقّي الأردنيّ ساذج؟ ألا يرَون اليأسَ والملل والسخرية في أحاديث الشارع والمواقع الاجتماعية؟
إعلامنا يا سادة فشل في نقل المشهد الأردنيّ لأبنائه وللعالم، بل وساهم بمزيد من الاستقطاب تحت شعارات جوفاء ومملّة مثل الأمن والأمان والتعايش المشترك.
"التعايش المشترك"- يا له من مصطلح دخيل! فالمعروف أن كلمة "تعايش" تطلق على النسيج المجتمعيّ غير المتجانس والذي عُرف عنه الاقتتالُ أو عدم تقبّل الآخر. خذ مثلا مبادرة "تعايش" في الخط الفلسطينيّ الأخضر والتي تدعو للتعايش السلمي المشترك بين اليهود والعرب غربَ النهر. مثال آخر من ترِكة العظيم/ مانديلا والذي دعا طيلة نضاله إلى ذات الهدف: التعايش السلميّ بين المستوطن الأبيض وصاحب الأرض الأسود بعد إرجاع الحقوق لأصحابها. وبعيداً عن المجتمع، يستخدم مصطلح التعايش في سياق المرض، فنقول: فلان يتعايش مع مرضه.. فأين الأردن من ذلك، وشعبه الذي لم يعرف سوى الأخوّة بين أبنائه من كافة الأصول والمنابت؟
كفاكم ترديداً لهذه العبارات السطحيّة وإهداراً لميزانيات على مؤتمرات تروّج لهذا الشعارات العقيمة، فمساعدة عائلة فقيرة وتعليم فرد من عائلتها أفضل وأنبل بكثير من الإنفاق على مؤتمرات تبقى مقرراتها غالباً حبراً على ورق.
نتّفق جميعاً بأنّ الأجيال الصاعدة هي التي ستبني الوطن وتكمل مسيرة الإصلاح. طيّب، كيف سيتحقّق ذلك وأنتم تمنعون تأهيلها وتمكينها في ظلّ هذه المناهج التعليمية المتهالكة؟ وأيّ بناء ذلك الذي سيتحقّق بدون أساس معرفيّ صلب؟ لماذا لا تسمعون لنصائح الأكاديميين والمختصّين من ذوي الثقة والنزاهة والكفاءة والخبرة؟
ألا ترون بأنّ هذه الإحباطات المتراكمة ستنفجر في وجوهنا جميعاً إن لم تجد متنفّساً؟ شبابٌ تُقمع آراؤهم وحتى أبسط مطالبهم، عائلات لا تجد أقساط مدرسة، شباب عاطل عن العمل، استقطاب ومناكفات فارغة وتراشق على النقطة والشدة والكسرة، مظاهرات احتفالية كاذبة شعارها تسحيج نَخب رابع، وخطابات خشبيّة مملّة.. والقائمة تطول وتكبر بعد أن ضاق بنا الوطن بما رَحُب.
السفينة تغرق ومن في جوفها لا يريدون سماع صوت العقل والضمير ولا استيعاب الكلام..
أعزائي غير المهتمين،
تساؤلات أبناء الوطن كثيرة ولكن لم يبقّ في الأقلام حبر. وأختم بالقول إنّ نبتة التطرف والجهل التي لا يمكن إنكارها لم تكن لتنمو وتكبر بهذا الحجم بدون أيادٍ غَرسَت وأخرى رعَت وسقَت وشذّبَت. وها نحن والإرهاب والجهل نتنفس من بعضنا البعض- في حالة أقرب للتعايش. ويبدو أنني أدركت الآن أنّ المقصود بالتعايش المشترك هو- في حقيقة الأمر- التعايش مع التطرف والجهل.
* الكاتبة تقيم في ملبورن