الصناعات الثقافية في الأردن: هويّة تاريخ واقتصاد
جريس سماوي
08-05-2016 06:38 PM
تُعرف الصناعات الثقافية بحسب اليونسكو بأنها حاملةٌ للهوية، والقيم، والمعنى، والعوامل التي لها تأثير في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وأن الحفاظ على التنوع الثقافي والترويج له يجب ان يقود الى تشجيع تنمية الصناعات الثقافية حتى تكون قادرةً على فعل تأثير على المستويين المحلي والعالمي.
من هنا فنحن نتحدث عن طيف واسع ومتنوع من الصناعات التي تدخل في باب الثقافة. واذا أردنا أن نتحدث عن التنوع الثقافي في أي مجتمع فاننا بالضرورة سنتحدث عن المنتج الناشئ عن ذلك التنوع وعن الهوية الثقافية الجامعة لمكونات ذلك المجتمع سواء أكانت تلك التقليدية التي ورثها الأبناء عن الأجداد مثل الحرف اليدوية والصناعات التي لها علاقة بالهوية الأثنية أو الدينية أو الاجتماعية أو تلك التي لها علاقة مباشرة بالمبدع الفرد كصناعة الكتاب والألبومات الموسيقية واللوحات الفنية التشكيلة وغير ذلك.
واذا أردنا أن نحدد هذا المنتج الذي ينتمي الى الصناعات الثقافية فاننا سنجد أنفسنا نفتح قوسا لسلسلة طويلة من الصناعات قبل أن نغلقه. فمن المنتج الأدبي وصناعة الكتاب الى المنتج الموسيقي، والمسرحي، والأدائي، والتلفزيوني، والأذاعي، والسينمائي، والحرف اليدوية، والتطريز، والتصاميم، وفن العمارة، في حال أنه انتقل من فن خدمي الى فن يحمل المورثات المعمارية والزخارف، وبذا يحمل هوية أجتماعية ثقافية، وحتى الرياضة أحيانا وفن الأعلانات، والثقافة السياحية، والدينية، الخ...
وسنجد هناك صناعات أخرى تنشأ في كل مرة بتطور الحياة التكنولوجية والأختراعات فقد نشأ في عالم تكنولوجيا المعلومات والأنترنت منتجات ثقافية وأنظمة برمجية وتطبيقات يتم شراؤها عن بعد حيث التسوق عبر الفضاء الألكتروني، مثلما أصبح المنتج الثقافي الناشئ
عن الصناعات الثقافية يسوّق أيضا عبر الفضاء الأفتراضي وبذا أصبح السوق مفتوعا وعالميا، اضافة الى انتقال سوق الكتاب والألبومات الموسيقية والسينمائية الى المعارض العالمية وحتى لوحات الفن التشكيلي التي ينظم لها بينالي ومزادات عالمية أيضا.
ان الناظم بين هذه الصناعات كلِها أو جلِها هو أنها خاضعة لقوانين حماية الملكية الفكرية وخصوصا تلك التي ينتجها الفنان الفرد كاللوحة الفنية والكتاب والقطع الموسيقة والأغنية وكلمات الأغنية وغيرها. وأنها تختلف عن الصناعات التقليدية او الأقتصادية الأخرى بأنها صناعات النخب اذ أن المهرة هم الذين يملكون أدوات أنتاجها أو أن الذين ينتجونها على الأغلب هم قلة من الناس وهم يحتكرونها ليس بمفهوم الأحتكار المتعارف عليه وأنما بمفهوم الضرورة الأبداعية التي تحتم على أن منتجي هذه الصناعات هم في الغالب من أصحاب المواهب والأبداع أي من الفنانين.
فالمنتج الأدبي، والموسيقي، والمسرحي، والسينمائي، والتشكيلي مثلا انما يقوم بانتاجه واجتراحه الفنان والمبدع وهؤلاء قلة في المجتمع لكن نتاجاتهم مطلوبة والتنافس فيما بينهم قليل بحكم قلة عددهم في المجتمع أي قلة المنتجين وندرتهم وتنوع انتاجهم وتنوع نكهاته لأنه يحمل صفة فردية في الأغلب أو روح جماعات فنية ينظمها نسق واحد. بل أن التنافس على أمتلاك نتاجاتهم يكون عاليا.
أن الميزة لهذه الصناعات هي أنها ترفد الأقتصاد الوطني لدولة المنتج بدخل مضاعف نسبة الى كلفة المنتج المادية ( طبعا وليس المعنوية ).
فأذا أخذنا باولو كويليو أو ماركيز أو أمين معلوف أو نجيب محفوظ أوغيرهم من الروائيين فان كلفة المنتج (وهو هنا الكتاب) على الدولة الذي ينتمي اليها الكاتب ليست بالعالية قياسا لما يدره الكتاب من دخل بحسب مبيعاته.
لقد باعت ثلاثية خمسون ظلا للرمادي للكاتبة الانجليزية أي أل جيمس حوالي 125 مليون نسخة منذ صدورها عام 2011 وحتى اواسط عام 2015 وهذا الرقم مرشح للزيادة.
وأن دخل فيلم افيتارمن أخراج جيمس كاميرون عام 2009 كان 2.8 مليار دولار من دور العرض دون احتساب الدخول الأخرى المتأتية من بيع الألبومات ومشاهدات الأشتراكات عن طريق الكيبول في المنازل.
وحقق فيلم تايتانك لنفس المخرج قبل ذلك ( 1997) دخلا يقترب من 1.8 مليار دولار أضافة الى 1.2 مليار دولار دخل أضافي تأتى من بيع الأشرطة والألبومات.
أن النجم سواء كان في مجال الموسيقى أو الغناء او السينما يصبح رافدا للدخل القومي لدولته وأن أي انتاج او فعل فني له يصبح استثمارا غير مكلف بالنسبة للدولة باستثناء ما قدمته الدولة له من تعليم قد يتأتى لأي فرد من أفراد المجتمع.
وان أجر فنان مصري كحسين فهمي أو عادل أمام مثلا أو غيرهما أو لنقل دخل أفلامهما في صالات العرض في كافة دول العالم العربي يرشح منه لخزينة الدولة المصرية نسبة معينة بغض النظر عن تاريخ العرض ناهيك عن بيع الألبومات واشرطة هذه الأفلام.
في الأردن تزدهر صناعة الكتاب بشكل لافت للنظر ويقبل الكتاب والأدباء من مختلف الأقطار العربية لنشر نتاجاتهم في عمان نظرا لمناخ الحرية النسبي الذي يتمتع به قطاع النشر بعيدا عن الرقابة الصارمة وكذلك النوعية التقنية للأصدارات التي تضاهي الدول الأجنبية في نوعية الورق والتصاميم والأخراج وغير ذلك أضافة الى قوانين الملكية الفكرية المتطورة في الأردن عنها في دول عربية كثيرة.
غير أن هذا القطاع ما زال يعاني بعض المشكلات فليس هناك تحديد لكمية الكتب التي يطبعها الناشر ولا يوجد (بار كود) أو رمز شريطي أو خيطي للكتاب يلزم الناشر ببيان عدد النسخ المطبوعة من كل كتاب أضافة الى أنتشار ظاهرة تزوير الكتاب وتصويره بطبعات تشابه الطبعات الأصلية مما يغبن حق الكاتب والناشر هنا. وما ينسحب على الكتاب في موضوع التزوير والنسخ غير القانوني ينسحب أيضا على الفيديو والسي دي والمدمجات الموسيقية والمرئية.
وفي الأردن تشكل الحرف اليدوية قطاعا مرشحا للنمو والتطور لأنه مرتبط أرتباطا عميقا ووثيقا
بالهوية الوطنية والأجتماعية وبالتاريخ وتطور الرموز التي تستخدم والتي تعبر عن الحياة في فترات متعددة. فالباحث في فن التطريز يستطيع أن يحدد منطقة الزي الجغرافية وتاريخ نشأة الرموز المطرزة وسياقها التاريخي والأسطوري والديني. وتتيح لنا دراسة الرموز في فن الفسيفساء المعروف في الأردن دراسة وافية للتاريخ والأحداث والمدن التي كانت سائدة في فترات متعددة في تاريخنا. و توجد الآن مدرسة لتعليم فن الفسيفساء في مدينة مادبا هي احياء لمدرسة مادبا القديمة التي كانت أحدى أهم مدرستين في هذا الفن العظيم أحداهما في أيطاليا والأخرى في مادبا. وعلى الرغم من أن هناك عددا لا بأس به ممن أحترفوا هذا الفن من الشباب من الجنسين وأن السياح يقبلون على شراء هذه المقتنيات التي تصنع من التنوع الفريد لأنواع الحجر والرخام في الأردن الا أن هذا القطاع بأمكانه أن يحقق دخلا أكثر بكثير مما هو عليه أذا تم الأهتمام به وتخليصه من السمة التجارية سريعة الربح وتحويله الى منتج ثقافي له قيمة فنية رفيعة. وكذلك فإن تميز الفنان الفرد في فن الخزف والفخار، بحيث يكون له توقيعه الخاص على أعماله يزيد من قيمتها المادية والمعنوية بينما تقل القيمة المعنوية في أعمال خزفية أخرى تنتجها معامل بشكل جماعي لا هوية خاصة للفنان الفرد الذي يحمل توقيعه على العمل معنى رمزيا كبيرا بالنسبة للزبون وخصوصا السائح الأوروبي أو الأجنبي عموما.
وأذا كانت الصناعات الثقافية بالأساس مرتبطة بالهوية والتنوع والذات الجمعية لأي مجتمع فأن الأردن الغني بتراثه ومناطقه السياحية والدينية لديه أمكانية لأن يطور المنتج الثقافي والحرفي المرتبط بالسياحة تطويرا كبيرا. فمثلا تزدهر الان الصناعات الخشبية والصدفية التي ترتبط بالسياحة الدينية حيث تباع الأيقونات والمياه المأخوذة من نهر الأردن مكان عماد السيد المسيح وكذلك البخور والتراب وبعض أغصان الزيتون وقد أزدهرت لسنوات أيضا منتجات البحر الميت من صابون وملح للحمام وطين الخ..
كذلك ازدهرت لسنوات عديدة الدراما التلفزيونية الأردنية التي كانت تسوق في كثير من الدول العربية وتزود خزينة الدولة برافد أقتصادي أضافي.
لقد حاولت اثناء عملي في السنوات القليلة الماضية في وزارة الثقافة بمساعدة طواقم مختصة انشاء مهرجانات في كافة المحافظات الأردنية تربط بين المنتج الأقتصادي والمنتج الثقافي فكان في الأغوار الشمالية مهرجان البرتقال ومهرجان القمح والزيتون في أربد ومهرجان التفاح في الشوبك ومهرجان النخيل في معان الخ... وكان الهدف هو تشجيع ربات البيوت والفنانين الشعبيين على ابراز انتاجاتهم الابداعية متخلصين من ثقافة العيب أذ أنه من خلال دمجهم في مهرجانات كهذه لها صفة ثقافية يتحقق للمبدع الشعبي وخصوصا من النساء ثقة أعلى بما يجترحه ويبدعه من فن.
أن توعية الفنان الشعبي بأهمية ما يقوم به يعزز من تطور المنتج وترويجه والاهتمام به والاقبال عليه وأذا أقتنعت ربة البيت الأمية مثلا أن ما تقوم به من تطريز ونقوش للثوب أو حناء أو وشم أو صناعة أطباق القش أنما هي أعمال ثقافية عمرها مئات بل ربما الآف السنوات وأن أهميتها تنبع من أنها تعبر عن الهوية الجمعية للمجتمع وتنوعه الثقافي فأن أقتناعها هذا يقود الى نقل هذه الحرف الى الجيل التالي واستمرارها بينما يقلص أنعدام الثقة بالمنتج أمكانيات استمراره وانتقاله للأجيال القادمة وتتعزز هذه الثقة عندما تتعزز قيمة المنتج المادية والمعنوية وهنا يكمن دور الحكومات في دعم هذا القطاع حتى يصبح مستقلا وجاذبا ومنتجا.
في مهرجان النخيل في معان قبل سنوات تم التركيز على كل المنتجات الثقافية التي لها علاقة بطقوس الحج الاسلامي اذ ان مدينة معان كانت لمئات السنوات تعتبر ( محمل الحج الشامي ) حيث كان الحجاج يأتون من بعض دول اوربا واسيا الأسلامية وتركيا والدول العربية الأسيوية ويتجمعون في معان تمهيدا لأنطلاقهم الى الديار الحجازية جالبين معهم منتجاتهم من حرير وأزياء ما زالت تُلبس في معان الى يومنا هذا ومنتجات غذائية وأواني منزلية مزركشة ونقوشات سجادية ومنتجات أخرى لبيعها من أجل سد جزء من كلفة رحلة الحج.
وفي مهرجانات أخرى مثل القمح والزيتون أقامت ربات البيوت في أربد والحصن وبعض القرى الأخرى عرضا للمنتجات الغذائية القديمة المرتبطة بالمواسم والمصنوعة من القمح وزيت الزيتون ومشتقاتهما بما يرافق هذه المنتجات من أغنيات وطقوس وفنون لها علاقة بالمائدة.
وختاما فان الصناعات الثقافية في أي دولة هي المعبّر عن هوية الناس ووجدانهم الجمعي وتحمل في ثناياها الرموز والموروثات التي حملها الأسلاف والجدّات عبر العصور والتي تعطي نكهة خاصة لأي منتج وهي بهذا تساهم في الدخل القومي وترفد الأقتصاد وتؤثر أيجابيا في المجتمع وتعزز الشعور الأنساني بقيمة العمل اليدوي والأبداعي عموما. وأن أهتمام الدولة والمجتمع بها وتعزيزها وتطويرها يسهم في ترسيخ قيم التنوع الأجتماعي وحوار الهويات المختلفة حوارا أبداعيا ثقافيا مما يعزز قيم السلام والشراكة على هذا الكوكب.
*وزير ثقافة أسبق