من الاصطلاحات التي نفذت إلى أدبياتنا السياسية والتنموية منذ عقود مصطلح "إطلاق الطاقات". وكلما استمع إلى أحد الذين تخصصوا في إدارة مؤسساتنا الرسمية والأهلية وغير الحكومية أنتظر سماع المصطلح الذي يتكرر بمعدل مرتين أو أكثر في كل مداخلة أو بيان يدلي به الرواد. للوهلة الأولى يخطر ببالي وأنا أستمع لتصريحات البعض عن إطلاق الطاقات أنني في الصين حيث ترى الناس يسيرون كالنمل بدقة ومثابرة وانتظام.
مفهوم إطلاق الطاقات والتمكين لا يقتصر على رعاية عشرات الشباب هنا أاو تشغيل مجموعة أخرى هناك. ففي المجتمعات المحلية كميات هائلة من الطاقات المهدورة التي تحتاج إلى إطلاق؛ بعضها تنتظر أن ترفع من وجهها العقبات والقيود أكثر مما تحتاج إلى رعاية وتنمية. في بلادنا اليوم ما يزيد على 300 ألف شاب وشابة ممن يحملون درجات جامعية ينتظرون أن يجدوا منفذا لطاقاتهم الجاهزة للانطلاق بلا تدخل. الفنان الأردني الذي أفصح عن موهبته في الدراما والموسيقى والمسرح يتطلع هو الآخر إلى من يرفع بعض العوائق والعقبات التي ما تزال تحد دون استثمار هذه الطاقات ووضعها في خدمة التنمية وتحسين نوعية الحياة. نسبة الأشخاص الذين يشاركون في الانتخابات البرلمانية أو البلدية او النقابية ما يزال محدودا نسبيا خصوصا في مراكزنا الحضرية.
منذ ما يزيد على ستة عقود صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليضع دليلا لحاجات الإنسان والتزامات الدول حول رعاياها، فأشار إلى حقه في الأمن والسلامة والصحة والتعليم والعمل وممارسة كل ما يحقق وجوده وكرامته.
وبعد ذلك توالى توقيع الاتفاقيات والبروتوكولات الهادفة لإسعاد الإنسان وتحقيق تنميته ورفاهه كاتفاقية الحماية من التعذيب واتفاقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. واستكمالا لهذه المنظومة الحقوقية المهمة جرى في سبعينيات القرن الماضي التركيز على حقوق الفئات التي عانت من التهميش والإقصاء والتمييز، فجاءت اتفاقية إلغاء أشكال التمييز الذي تتعرض له المرأة وحقوق الطفل وقضايا التنمية بما في ذلك الفقر والبطالة والمشكلات الاجتماعية والسكان والبيئة والاستدامة وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقات وغيرها من القضايا التي تهم الإنسانية وتؤثر على نوعية حياة أعضائها.
بالرغم من كل الاتفاقيات والمؤتمرات والتقارير ولجان الرصد وما صاحبها من الصخب الإعلامي الذي أثارته المبادرات والمشاريع فإن العدالة الاجتماعية ما تزال بعيدة المنال،ة فالصراعات الدموية تنتشر على مساحة الفضاء العربي واللجوء والفقر والجهل والجوع عادت لتسلب بلداننا بعض ما حققته من إنجازات وهناك تراجع واضح في مدى حصول الأفراد والجماعات على حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ناهيك عن الحقوق السياسية.
اليوم يتصارع الكثير من بلدان العالم العربي للحفاظ على أمنها القومي والاجتماعي وسط عشرات التهديدات الداخلية والخارجية التي أربكت خططها ودفعت بها إلى تبني تكتيكات الحفاظ على كيانها وأمنها من خلال تبني أهداف مرحلية انتقائية تتغير بشكل دوري. فقد اختلت العلاقة بين الأنظمة العربية والشعوب وتغيرت القيم والأخلاق التي حكمت علاقات المجتمع وازدادت معدلات الجريمة وآفات المخدرات والفساد المالي والإداري وتلاشت الثقة بمن يشغلون المواقع العامة والجمهور.
المشاكل التي أصبحت تواجه الأنظمة العربية لا تقف عند التهديدات التقليدية المتمثلة بالأطماع الخارجية والسعي من قبل القوى الخارجية والداخلية لتغيير بنيتها بل أصبحت متنوعة ومتعددة المصادر يأتي في مقدمتها الافتقار إلى صيغ تتيح لكافة مكونات المجتمع المشاركة السياسية، وتزايد اهتمام فئات جديدة بالشأن العام ورغبتها في المشاركة إضافة إلى تكشف عجز الدول عن إيجاد حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والخدمية التي يعاني منها المجتمع.
قضية العدالة الاجتماعية وضعف الالتزام بالقانون وغياب الرقابة والمحاسبة وضعف أداء المجالس والأجهزة الرقابية والعبث بإرادة الناخب العربي هي بعض المشكلات التي تحبس طاقة الإنسان العربي وتنذر بالأخطار الناجمة عن تنامي الإحساس بالظلم والتمييز.
إطلاق الطاقات يحتاج لأكثر من برنامج هنا أو مشروع هناك بل يحتاج إلى بنية تشريعية تنظيمية إدارية تهدف إلى استثمار كل ذرة طاقة لدى كل فرد في خدمة البلد واستمرار عجز المجتمع عن إيجاد قنوات كافية لاستثمار طاقات أبنائه مشكلة لا يمكن تجاوزها بتصريحات وتبريرات غير مقنعة.
الغد