باستثناء بعض الاصوات التي تخرج من هنا وهناك ،لا يوجد لدينا حالة “ نقاش “ وطني عام حول العديد من المقررات والقضايا الكبرى التي داهمتنا , والاخرى التي نتوقعها وقد تفاجئنا عما قريب . الطبقة السياسية بمختلف تنوعاتها : رؤساء الوزارات واصحاب المواقع والموظفون الكبار الذين خرجوا من مواقعهم , او أخرجوا منها ( لا فرق ) اختاروا ان يقفوا متفرجين على المدرجات واكتفوا بمتابعة اشواط المباريات السياسية المعروفة نتائجها سلفا , اما باقي افراد المجتمع فقد استسلموا لقدرهم مؤثرين الصمت والدعاء بان يجنب الله البلد ما قد ينتظره من مكروه . افهم – بالطبع – مبررات هذا الصمت بالنسبة للنخبة التي تتطلع للعودة الى المواقع التي خرجت منها في اقرب وقت , او تريد ان تحافظ على “نقائها “ وتنفي عنها تهمة المعارضة , كما افهم الاسباب التي تدفع البعض الى الحفاظ على مصالحهم ومكاسبهم حتى لو كانت على حساب الوطن من خلال اظهار موافقتهم على كل شيء حتى لو تعارض مع قناعاتهم , افهم ثالثا ان ينشغل الناس بمعاشهم وظروفهم وان يستقيلوا من السياسة وينتظروا الفرج , وان يتحول المجتمع بالتالي الى مجتمع “ فرجة “ , يتلقى الصور فتصدمه وتدفعه الى قبول الوقائع وكأنها حقائق لا تحتاج الى اي نقاش . ما لا يمكن ان افهمه او “ابتلعه” هو جرأة البعض على التذاكي وايهام الناس بانهم يعرفون مصالحهم اكثر منهم , ويقررون بالنيابة عنهم, والاغرب من ذلك انحياز نخبة الخبراء الذين نريد حقا ان نسمع صوتهم الى “ الانكفاء “ بعيدا عن المشهد , وكأن لسان حالهم يقول “ وانا مالي..؟! “ ، وبالتالي افتقدنا ما نحتاجه من نقاشات عامه كان يمكن لهؤلاء ان يساهموا فيها , ليس فقط لانقاذ حياتنا العامة من “ الموات “ الذي انتهت اليه , وانما لارشاد مجتمعنا الى الصواب وتطمينه على خياراته، ان كان لديه خيارات .
ربما ثمة من يتساءل : ولماذا النقاش العام ما دام ان المقررات والوصفات جاهزة , ولا يحتاج تمريرها لاكثر من اشارة ؟ يبدو التساؤل – بالطبع – مشروعا في ضوء ما نتابعه وما نراه , لكن لدي سببان يقفان امام الدعوة لضرورة النقاش العام , اولهما ان القضايا التي فاجأتنا , والاخرى التي تنتظرنا , لا يجوز ان تمر هكذا في غيبة “ رأي “ المجتمع والناس , فهي تمس حياتهم ومستقبلهم ايضا , ومجرد تمريرها بهذه الصورة والسرعة يشير الى خلل كبير , لن ندفع فقط فاتورته اليوم وانما اخشى ان ندفعها جميعا غدا , وبالتالي فان صحوة “ النخبة “ الاصيلة والحقيقية تبدو فريضة واجبة, اذا ما كان المطلوب هو خدمة الوطن لا مجرد انتقاد السلطة او مقاطعة السياسة او حتى اشهار “ العزلة “ والشماتة بالجميع . اما السبب الثاني فهو ان غياب النقاشات العامة سيولد حالة من الاحتقان والارتباك ، وسيترك فراغا كبيرا ربما يملؤه اخرون لا علاقة لهم بالموضوع , واخشى ان يكون هؤلاء الذين سيملأون هذا الفراغ من طبقة “ الانتهازيين “ او المتربصين و العابثين , وحتى المتطرفين الذين يريدون ان نقع في المحظور لكي يقولوا لنا : الم نحذركم مما وصلتم اليه ؟ , واذا احسنا النوايا فان هذا الفراغ يمكن ان يسده شباب متحمسون يحبون بلدهم ويسعون الى اصلاح ما حدث من اعوجاجات فيه لكنهم لا يملكون الوعي والخبرة اللازمة ، وبالتالي فهم بحاجة لمثل هذه النقاشات العامة التي ستساعدهم على تحديد مواطئ اقدامهم واتجاه بوصلتهم لكي لا يقعوا في الخطأ او يضروا البلد من حيث يريدون الخير له . ثمة من يرد ، ربما، ويقول : ان مجالاتنا الاعلامية مزدحمة بالنقاشات والحوارات ,هذا صحيح ، لكن من يدقق فيها سيجد ان معظمها يخلو من “ الدسم “ ،فهي مجرد هوامش على نصوص مغلقة وحول قضايا صغيرة , تتعمد الابتعاد عن الحقائق , او كشف المستور , او الغوص في العمق , كما انها تخلو من الموضوعية والمكاشفة , وبالتالي فهي تعبر عن وجهات نظر اكثر مما تعبر عن “ حالة “ نقاش وطني معتبر , عن احساس بالمسؤولية الوطنية التي تقتضي مشاركة الجميع بدون تحفظات او مخاوف او مجاملات . هل لدينا فعلا قضايا كبرى تحتاج الى النقاش العام ؟ هذا السؤال فعلا هو الذي دفعني الى التنبيه لغياب النقاش والتحذير من استبعاده , والدعوة الى استدعائه قبل ايضا ان نشهر “ نعيه “ ونترحم على افتقاده , اما عن العناوين التي نحتاج ان نذهب اليها فاعتقد انها متعددة , واصبحت في هذا التوقيت بالذات مهمة وربما اقول مصيرية , لا اتحدث فقط عما تم اقراره من تشريعات او عما وصلنا اليه من انسدادات في مختلف المجالات ، وانما عن قضايا تشكل تهديدا مباشرا لبلدنا , سواء اكانت متعلقة بترتيب داخلنا او بما يجري حولنا , غدا نكمل الحديث عنها ان شاء الله.
الدستور