اللاجئ الذي لا يستطيع أن يحمل وطنه على ظهره ليلة اللجوء ، يأخذ بعضاً منه ؛ ذكرى ،حلم، انتقام، تحدّ،حبّ.. لكنه لا يأخذ الوجع..فعند الوصول هناك الكثير منه بالانتظار..
* * *
كان اذا ما فرد الربيع عباءته على الأرض، يتقاطر أطفال الحي تباعاً الى بيت ذلك الرجل العجوز المتواضع ، في ساحة الدار يشاهدون كل المعروض ،يشترون منه فِخاخ لصيد العصافير، شباك بدائية للإيقاع بالحمام ، وبعض الألعاب المصنّعة يدوياً من الخيطان وأسلاك الحديد...كان العقل الباطن لذلك العجوز الفلسطيني مشغولاً بالاحتلال... فانصبّت هواياته الجديدة عل تصنيع ادوات للمقاومة دون ان يشعر فلم تبرأ ذاكرته من نكبة ال 48.. بالرغم من أن الضحية الجديدة عصفور أو حمامة برية وليس محتلاً..
* * *
مهران علي، لاجئ كردي سوري ،هرب من حلب إلى تركيا ،لم يستطع أن يحمل وطنه على ظهره فأخذ بعضا منه، حمل حلماً وصفائح وأسلاكا..ثم قفز إلى قارب اللجوء إلي اليونان وعندما عرف رقم خيمته وإحداثياتها في مخيّم ايدوميني انزل كيس خبزه وغربته عن ظهره ، ارتاح قليلاً ،نظر إلى الشمس اليونانية التي لا تقطعها طائرة مقاتلة ولا يرسم دخان القذائف لها ذقنا أسود متصاعداً...تبسم وبدأ يحلم..بأصابعه بات يشكّل أسلاك النحاس الطرية ، يربطها بشكل هندسي ، لا يعتمد فيه على تصميم الورق، وإنما على ذاكرته المكتظة بالأشكال الهندسية ، يصنع المقدّمة والهيكل ،يدعمها ببعض الصفائح ثم يزرع في مقدمتها محركاً كهربائياً يتحكم فيه عن بعد، مهران علي يصنع سيارات التحكم عن بعد بأدوات أولية بسيطة ليصنع الفرح في قلوب أبناء المخيم المغرّبين عن طفولتهم ...ياه كم يشبه الشاب مهران ذلك العجوز الذي سكن حيّنا ،وصنع فرحنا ذات زمن مع سبق الاصرار والترصد .. وكأن الشباب والكهولة يتساويان تحت خيمة الــUN .
مهران علي يصنع الطائرات المروحيّة ، والطائرات المقاتلة التي تكف عجلاتها فور تحليقها في السماء تمهيداً للقصف..ما زالت سماء ذاكرة مهران الكردي مكتظّة بالكائنات المعدنية التي اختصرت وطنه إلى خيمة ،وكرمات العنب إلى أسلاك شائكة ، والعصافير إلى هياكل من حديد وحنين..مهران الكردي..يحاول أن ينسى وطناً يتحكّم به عن بعد يحرّكه إلى الأمام شوقاً والى الخلف خوفاً...ومع ذلك يحمد الله على نعمة الحياة ...فسياراته المصنوعة من يديه بأسلاك طرية ورقائق مسالمة لن تستحيل الى سيارات مفخخة مهما قست او توحّشت...
الراي