حسم الأمر ، ووضعت الأقلام وجفت التكهنات ، وبات واضحا ، أن المقاولة رست على الخيار الأردني رسميا ، وجرى إستبعاد "الفقوس" الفلسطيني نهائيا عن بورصة التنازلات ، وأجمعت كافة الأطراف المعنية "الأردن والسلطة وإسرائيل " على هذا الخيار كحل نهائي ، وشطب رسمي للقضية الفلسطينية .
ما لم يدر في خلد الجميع ، أن هذا الحل سيكون مؤقتا ، وسيظهر إلى الوجود لفترة تمتد من 5-15 عاما على أبعد تقدير ، ثم تنفجر الأوضاع مجددا ، لأن القضية الفلسطينية قضية سماوية بإمتياز ، وقدر الله سينفذ ، وأولو التوراة الصحيحة يعرفون ذلك حق المعرفة ، ويعقدون حلقات لبكاء كل ما سمعوا أن الصهيوينة نجحت في تغرير يهودي وأجبرته على مغادرة وطنه الأصلي إلى "إسرائيل".
ذات يوم ، وبعيد الإحتلال ، وأنا شاب يافع ، جرى نقاش بيني وبين مستدمر خزري في الضفة الفلسطينية ، وقال لي بالحرف الواحد "يا خبيبي ، إحنا طالعين من هالبلاد إذا مش اليوم فبكرة "! فسألته عن المستدمرات التي بنوها في الضفة ، وكان رده أن من العرب تعهدوا بتعويض إسرائيل بعشرة دولارات عن كل دولار دفعته في المستدمرات.
بعد ذلك إنتفض وقال : لكن عليك ان تعلم يا خبيبي أننا عندما ننسحب من هذه البلاد فلن نعيدها إليكم كفلسطينيين! فسألته : ولمن ستؤول إذا؟ فأجاب بأريحية : سنسلمها للملك حسين لأننا نثق به أكثر من ثقتنا بعرفات !
منذ ذلك الحوار وأنا أرصد التحركات والتطورات والمشاريع الإستسلامية التخديرية رغم تأجج نار الكفاح المسلح ، وأعطي رأيا مسبقا بأن هذا المشروع أو ذاك سيكون مآله الفشل ، الأمر الذي لم يكن يروق للكثيرين الذين كانوا واهمين بأن دولة فلسطينية سترى النور يوما ! وكنت متيقنا أن كل التطورات والأحداث الدراماتيكية التي شهدت سفح الدم الفلسطيني هنا وهناك ، كان إمعانا في سفح الحقوق الفلسطينية وهدرا متعمدا للهوية الفلسطينية .
كان الوجع أكثر وأشد إيلاما بعد قمع الثورة الفلسطينية ، وقتل الشعور الفلسطيني ، وما حدث خاصة في بيروت عام 1982 ، وصمت نظام الدجل العربي في دمشق عن سحق المقاومتين اللبنانية والفلسطينية ، وإحتلال بيروت من قبل السفاح شارون ، خير شاهد على ذلك ، إذ كان هذا النظام شريكا للسفاح شارون ، ولذلك فإن نهايته التي نراها لن تحزن أحدا.
بعد أوسلو توهم البعض أن هناك دولة فلسطينية قادمة ، لكنني لم أغادر حدسي ، ولم أغيّب نظرتي للأمور ، وها نحن في المشهد الأخير ، إذ بات واضحا جليا أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية ولا سيادة فلسطينة ولا فقوسا فلسطينيا ، بل سيتم تنفيذ مشروع الخيار الأردني ، لأن المقاولة رست على الخيار الأردني ، ولهذا الخيار بطبيعة الحال تبعات كثيرة يجب أخذها بعين الإعتبار.
معروف أن الضفة الفلسطينية إنسلخت عن المملكة إثر مسرحية الساعات الست التي يطلق عليها حرب الأيام الستة ، بمعنى أنها ضاعت في العهد الأردني ، وعليه يجب على الأردن أن يعيد النظر في حساباته ولا يقبل العرض الإسرائيلي ، الذي يسمح بإعادة أشلاء من الضفة الفلسطينية إليه .
صحيح ان الفلسطينيين هناك قد قرفوا من الإحتلال ، رغم أنهم بذلوا الغالي والنفيس ، فهل سيقبلون بأقل من دولة فلسطينية ذات سيادة ؟ ولذلك فإن الوضع الجديد في أشلاء الضفة التي سيتسلمها الأردن سيكون في غير ذات السياق ، رغم أن الفلسطينيين وحدويون بطبعهم لكن الأمر هنا يختلف ، فلو أن الجيش الأردني إنتزع حتى ولو شبرا واحدا من براثن الإحتلال ، لأقيمت النصب التذكارية وعمت الفرحة كافة الأرجاء.
التمنع الأردني في هذه الحالة من ضمن الحلول المطروحة كي لا يتحمل الأردن تبعات محددة ، وبما أن الصوت الأردني مسموع لدى دوائر صناع القرار العالمية ، فإن بإستطاعة الأردن أن يعلن رفضه لهذا المشروع ، بمواصفاته المطروحة عندها سيضطر المجتمع الدولي إلى إعادة حساباته ، لكن في حال بقاء الأردن في خانة السهل الممكن ، فإن الأردن سيتحمل تلك التبعات ، وربما تدخل الأمور في نفق لا نريده.