على سرير الطوارئ ..قالها،والدمًُ مطرٌ يهدر على جبهته ويمتزج بدمع العينين، قالها بعفوية الطفولة ، ببراءته المقتولة: سأخبر الله بكل شيء، سأخبر الله بكل شيء.. لكنه لم يكمل شهقة البكاء..لقد قطفت شهقة الموت ذاك النداء..
* * *
كان يرددها دائماً..لمن يؤذيه في البيت، لم يدلق خطأ إبريق الزيت ، لمن يستبيح ألعابه ، لثلة أصحابه... سأخبر أبي بكل شيء..فيدارونه ويخشونه..ويعطونه ما يريد...فالاختلاف بينهم مجرّد لعبة...كان يحتمي بصوت أبيه ، ينام على ركبتيه ،يلامس خدّه ، يقاسمه المخدّة، ويخبره بكل شيء ... لكن قبل موعد حضوره اليومي ، مات الأب بشظية ، ومات الأشقاء والأصحاب ، وهدم الحي والبيت...وبقيت أنا الوحيد الذي ينزف على سرير الموت...من سأخبر بعد اليوم؟..وكل الذين سأخبرهم ماتوا، أمي وأبي وحلب ...سأخبر الله بكل شيء... وسأشكو إليه العرب...
* * *
سأخبره أن بيتنا الصغير في آخر الحي كانت تحرسه جنينة مُشجّرة ،سأخبره أن دالية العنب ، والخوخ والدرّاق،والتوتة المُعمّرة ...مثلنا لا تستطيع ان تركض بساقها الراسخ في الأرض ..فاقتلعتها البراميل المتفجرة، سأخبره أن أمام دارنا كانت أرجوحتي ، كانت تُأرجح الريح لحظة غفوتي ، كنتُ ألهو بها عند الضحى وقبل الغروب ، لا أعرف إن جاء من بعدي يسعفها أو ربما هناك الآن من يركبها أو ربما ماتت مثل أختي تحت قوالب الطوب...سأخبر الله بكل شيء...سأخبره أن يحضر لي ألعابي ، وأن يدلّني في أي زاوية من الجنة صار يسكن أصحابي..سأخبره أنني لم أكمل بكائي على سرير الطوارىء لحظة الوفاة ،ربما لم يفهم الأطباء ما الذي كان يؤلمني...سأخبره أن الذي كان يؤلمني موت الجميع أمام عيوني...
سأخبر الله أن العروبة.. محض أكذوبة، وأن حقوق الانسان ...خطابات مكتوبة.. سأخبره أن الدموع التي تذرف علينا وتبدو غزيرة ، يذرف أضعافها عندما يموت البطل في الحلقة الأخيرة ، سأخبره أنهم يرخّصون دمنا ليرفعون أثمان نفطهم ، وأنهم يقسون على وجعنا ليتجلى بعض عطفهم...لا تصدّقهم يا الله....فبرامج الهواة ، أهم بكثير من أرواح المئات وان الهدم السريع الذي رأيته، سببه تنافس البُناة... سأخبره أيضاَ أن المعمّرين من أطفال بلدي صارت لا تزيد أعمارهم عن دورة الرئاسة ، الدم والدمع والأعناق المدلاة ، الجثث الموزّعة هي بعض من لعبة السياسة،
كي يبقى أو لا يبقى يسكبون جرار الدم الأنقى ..
سأخبره بكل أدب ،أن يعجّل الينا الغضب ...فكلّما سعّر نيرون النار على حلب...صاح المستعربون سلمت يدا أبي لهب...ثم أمام الشعوب المتعاطفة ، يشجبون ،يندّوون، يتسابقون في الخطب العاصفة...
سأخبر الله بكل شيء..سأخبره ... أنني متّ قبل أن أتمّ في الحي لــَعِبي...فهل أستطيع ان أسلّي وحدتي ، أبني بيتاً من الرمل وأصنع أبوين من القصبِ..سأخبره...أن شعبي الآن بلا وطنٍ...هل تهدّى – يا الله- الجنّة وطناً لشعبي ؟...
الرأي