لقد رأيت الكثير من ندم على الكلام وقلما وجدت من ندم على الصمت ففي كثرة الكلام هذر..وفي كثرة الصمت تفكر ..وتدبر .. قرأت عن علم الكلام وكتب الكثيرون في علم الكلام والخطابة ولم اقرأ عن علم الصمت ولا اظن ان هناك كاتباً كتب عن علم الصمت وبلاغة الصامتين .. لم اجد كتاب مخصصا يتحدث عن (فن الصمت) أو (كيف تكون صامتا بليغا) أو (قواعد الصمت للمبتدأين) فهناك مفسرون للكلام والخطابات ومعاني الكلام والجمل ..وليس هناك مفسرون لعلم الصمت ومواقف الصامتين وسلوكاتهم ..ونظرات الصامتين وبلاغتهم ... ورب موقف صمت ابلغ من خطبة رنانة أو قصيدة مؤثرة ... فكثير ممن يملك ناصية الصمت وبلاغة السكوت يدمي خصمه ويفت كبده بصمت مطبق جارح بالغ الجرح وعميق الاثر ... ثم ان الصامت يستعين بحركة العيون كما يستعين المتكلم بحركة الايدي ... والا كيف توصل الرسائل الغرامية بين المحبين بدون كلمات ..وكيف تنتقل الاحاسيس والمشاعر الايجابية والسلبية عبر العيون ومن اشعاعات صامتة فتدرك غضب الاخر وحزنه واشفاقه وحنانه وهو صامت وفقط من خلال تعبيرات وتقسيمات وجهه وتضاريسه المتغيرة والمتقلبة .. ومن حكم لقمان في الصمت ما قاله لولده "يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم فافتخر أنت بحسن صمتك".

ولكن متى يكون الصمت خطيئة او جريمة أو منقصة نحاسب عليها؟؟

سمعت وقرأت عن الوقوف دقيقة صمت على ارواح شهداء قضوا في سبيل اوطانهم او عقائدهم او اموالهم او في المعركة ... وقلت سابقا واعيدها هنا ثانية ان الصمت ودقيقة الصمت التي يقفها المقاتل فوق قبر اخيه او زميله ورفيقه في المعركة بعد ان يدفنه او يتركه فوق الارض لشدة هول القصف والقذف وتراشق الرصاص او السهام والصواريخ ...هو مبرر لان الدقيقة التي يقفها المقاتل صامتا توازي حياته امام الموت المنهمر امامه ...اما نحن الصامتون دهرا والخارسون جبنا والقابعون في بيوتنا وقصورنا وتحت قبب البرلمانات وتحت رذاذ الكندشنات في الوزارات المكيفة لماذا نقف دقيقة صمت؟؟ ... ونصمت ونتوقف عن اي شيء؟ وهل نحن في ميدان حميم وتطاحن؟ حتى نقف دقيقة لنقدس ونودع رفيقا سقط من بيننا ... السنا بحاجة لدقيقة حركة وكلام وتململ من صمتنا الفاضح وسكوننا المخيف ونومنا الكهفي ...اليس الصمت هنا جريمة بحق الشهيد أو القتيل وبحق الدين والاخوة والعروبة والمعركة و.. و... اذا كان صمت تدبر وتفكر وتخطيط والصمت الذي يسبق الانفجار والانطلاق والعاصفة فقد نبرره.. ولكن الصمت الذي ينتج عن تخاذل وتواطؤ وانسلاخ فليس مرحب به ولا هو محمود ولا من ذهب ...ونحن محاسبون عليه من الناس في الدنيا ومن الله في الاخرة ... هذا صمت لا نفخر به ولا يحبه لقمان ولا رب لقمان ولا اساتذة الصمت البليغ ولا مدرسوه .... وهنا اقول رب صارخ اشرف من صامت..