في ايام الطفولة كان في قريتنا اربع زوايا يجتمع فيها رجال القرية من كبار السن. بعضهم يباشر الحديث دون ان يستأذن من احد وبلغة غاية في الفضاضة لدرجة ان اسلوبه وطريقة الحديث تكفي لتوليد مشاجرة بين الكهول والذين غالبا ما يظهرون انحيازاتهم العشائرية حالما تبدأ المشاجرة.
وقد شهدت عشرات المشاجرات التي سالت فيها الدماء وانقسمت القرية الى قسمين بسبب اسلوب الحديث الذي امتاز به عدد من الرجال الذين كانوا يلقبون "بمحاويس الشر".
في احدى الزوايا الهادئة يجتمع عدد من الرجال الذين احترفوا لعب السيجة واعتادوا ان يجمعوا بذور التمر والحجارة ويقسموا انفسهم الى فريقين يدير كل فريق أحد اللاعبين المحترفين ويتولى البقية الاصطفاف لتشجيع احد الفريقين.
في هذه الزاوية من القرية كانت التنبؤات مثل السياسة هذه الايام ينقل اللاعب حجارته من خانة الى خانة وسط هتافات وقهقهات المتفرجين الذين تعلو اصواتهم عند الربح او الخسارة وغالبا ما يصلون الى ذروة نشوتهم عندما يقول احد اللاعبين للاخر "جروك مات"..
بالرغم ان لعبة السيجة انقرضت منذ زمن بعيد واراهن ان الكثير من ابناء الجيل الجديد لا يعرفون شيئا عن العاب الاباء ولا الدروس المستفادة منها الا انني ارى ان معظم الجراء التي في سيجة الاباء ماتت واصبحت اللعبة فارغة من المعنى والشكل والمضمون ولم تعد مسلية ولا جاذبة وفيها الكثير من الجهل والغش والخداع.
رحم الله الاباء وبراءتهم وصدقهم وحبهم واخلاصهم فقد كانوا يعلمون ان الجراء تموت حتى وان اعيدت ليجري نقلها من خانة الى خانة من اجل ان يتسلى النظارة الذين يعلمون انها لعبة ينساقون الى متابعتها من قبيل المجاملة والتسلية لا اكثر.