نعم.... رأيته وصليت فيه ....
لم أكن احلم في حياتي أن أشاهد مسجداً يقف في وجه الحدود مع العدو الصهيوني، بهذه الروعة والبهاء ! ولم أكن في الحقيقة قد استطلعت مدخل مدينة صيدا الشمالي حين اصطحبتنا الحافلة إلى الجنوب بعد ! وخيل إلي أنني أنتقل إلى مكان آخر في دنيا الجمال والطبيعة الفاتنة في صيدا الصامدة!
وكان ذاك أروع ما رأيت في حياتي من مساجد، فهو بطابعه العثماني المتفوق مهارة وإتقاناً في التصميم والمساحة يأخذ الألباب من الخارج والداخل! ربما هو الموقع في الجنوب الذي مزج الثورة اللاهثة في وجداني، فوجدت التميز العجيب! لكنني تراجعت عن هواجسي حين تذكرت بأنه صرخة الإنسان المحب لأرضه وناسه تجاه السماء أن احفظي يا سماء لبنان موحداً ، وهي صرخة الحنجرة المؤمنة الطيبة الكريمة في لبنان (صرخة الشهيد رفيق الحريري )!
ولم يكن في وسع المرء أمام الحدود والقلعة الصامدة ومسجد الحريري ، إلا أن يتكئ على الصخرة المجاورة للوقوف باكياً ومتمتماً بسبحان الله! تلك النقطة الوهاجة في تاريخ الشهيد رفيق الحريري! فكان لتعبير الأهالي المستقبلين لنا لوعة الكلام عن الشهيد الحريري الذي جعل لتلك المدينة اكبر المعاني ، متجسداً في مسجد يؤمه المصلون والزوار من جميع الملل والطوائف يترحمون على الباني الذي أغدق من فكره وعقله ودمه ارفع الخيوط للنسيج الديني في الجنوب بالتحديد ! إنه الطابع الإيماني المتميز الشاخص باتجاه السماء والمحافظ بين تقارب المساجد والكنائس في المدينة! وهو الممزوج في قلوب الأهالي والمتمثل في الحقيقة الشعبية والوطنية، وغير ذلك يعتبر افتراء على الوحدة الوطنية والشعبية في لبنان! وبالفعل تألق المسجد ارتفاعاً ونبضاً كأنه يناشد اللبنانيين بكف الشهيد الحريري ، أن تعالوا لكلمة سواء نشهد الله أننا قلب نابض بالحياة لأجل الذاكرة والمستقبل ! أحسست بتلك الأفكار وأنا أربط المشهد التراثي التاريخي بفن العمارة الحديث المنسوج في المسجد!
فهو بطابعه العثماني يشبه مسجد السلطان أحمد ، اشهر مساجد مدينة اسطنبول ، وأعتقد أن الباحثين في العمارة قد جزموا أن مسجد الحاج بهاء الدين الحريري يفوق روعة مسجد السلطان احمد من حيث الإتقان في التصميم والاتساع والمرافق !
فلقد تم اختيار المكان بأعلى درجات العناية الدينية والسياسية على الحدود في نفس الوقت والموقع حيث يتحول المشهد إلى سحر خلاب شائق يجمع العراقة والحداثة ، فشاهدنا الجسور ومدخل المدينة والمنشآت الرياضية والطبيعة الساحرة تتدفق عبرها رؤوس المآذن والكنائس الشهيرة في المدينة ، وكيف تتسع الطرقات مع أفئدة الأهالي في مدينة تعبق بها الحضارة الشرقية وأصالة التاريخ ، فندخل قلعة صيدا البحرية التي هي أعظم رمز تحمل على كتفيها العاليتين مقاومة المدينة وصمودها في وجه العدو المحتل الغاشم ! فينطلق صدرها البهيج لاستقبال ضيوفها العاشقين للبنان الخير والرحابة والدم العربي الواحد في طوابير الطوائف التي تتمنى أن تنبض بقلب واحد في جسد واحد !! وهذا مرسوم نفسياً وفنياً ، في كل سطر في حجارة المسجد الرائع ، يستطيع الزائر أن يقرأ حروف الرسالة الواضحة بين نقوش الفن والإبداع في المسجد وفي خارجه !
وأصابنا الحزن الغامر ونحن نتوقف لقراءة الفاتحة ، واستذكار الباني ، فعلى تسعة آلاف متر مربع يقع المسجد المبهر ، وطبقاته الثلاث تحمل الوقوف الخاص بهيبة الإبداع وروعته ، والوقوف أمام ضريح الحاج بهاء الدين الحريري والد الشهيد رفيق ، ودخلنا الحديقة التي تبلغ مساحتها ثلاثة آلاف متر مربع ، لنقرأ الفاتحة على روح الرجل الأب الصيداوي الذي لبس الطربوش طيلة حياته وزرع الأرض الجنوبية وحرثها ورواها بعرقه ، والذي رحل وهو يستمع لولده رفيق الحريري كيف سيغرس حجر الأساس لتثبيت البهاء في الجنوب ، وفي وجه العدو الغاشم ولتسمية المسجد تخليداً بذكرى الحاج المربي الفاضل ! وقد أصر ولده رفيق على أن يكون حجر الأساس يوم 19/9/1999يوم الجمعة هو الضريح لأساس مسجد يجمع التحفة الفنية الفريدة والموقع المقاوم الممثل للوطن اللبناني بأكمله ! كان الشهيد رفيق يشرف بنفسه ويتفقد العمل في الجنوب باستمرار، وقد أرساه في صيدا الصامدة وها هو يتسع لأربعة آلاف مصلٍ ، وقد خصص الطابق العلوي مصلى للنساء ليستوعب خمسمائة مصلية ، ويا لجمال التصميم والهيبة ، فقد روعي في البناء الطابع التاريخي من خلال الأحجار المنقوشة بالرسومات والكتابات الإسلامية ، وقبتين كبيرة وصغيرة يعلوهما هلال برونزي ، وتم تخصيص الطابق السفلي بمساحة ألفين وسبعمائة متر ليكون مكتبة للقراءة والدروس الدينية ، ورجت الأرض تحت أقدامنا ونحن نقرأ الفاتحة على روح صاحب اليد المعمارية الطاهرة الكريمة ، ولم يحل دون الورع والبكاء والصلاة صوت اختراق المقاتلات الإسرائيلية للأجواء من بعيد ، وأيقنت أن الزجاج المهيأ للمسجد هو ضد اختراق حواجز الصوت للطيران المعادي ، حيث يحرسه الله ويرعاه! ولم نتخيل المصلين يتمتمون بالفاتحة لا بل إنها الحقيقة الواقعة فقد اكتظت مساحات المسجد بالمصلين في يوم الجمعة كأنهم يتعطشون للتجمع فيأخذون الزينة الكاملة عند كل مسجد!