تحتاج بين عمر وعمر ان تبتعد عنك لتراك، اين كنت ؟ اين اصبحت ؟ اين انت من هذا الذي هو انت .انت الذي تصحو صباحاً في نفس المكان، تذهب الى نفس المكان، تشرب نفس القهوة، تمارس نفس العمل .وفي غمرة هذا وذاك تتذكر كل ما عليك القيام به، لا تنسى شيئاً الا...نفسك . ولأن الحياة اصبحت قطاراً الكترونياً سريعاً عليك ان تسرع في ارتداء ملابسك وتناول فطورك وقيادة سيارتك والاذعان لآخر صفارة لتلحق بمصدر رزقك .
لم يعد الطريق معبداً بالنوايا الحسنة ولا بالنفوس الطيبة فثمة من يزاحمك ومن يغار منك ومن يضع العراقيل في طريقك ومن «يدفشك» لتقع في محطة ما . علما ان الطريق يتسع للجميع والطرق اصلا وجدت للجميع ليصل كلٌّ الى المكان الذي يتناسب مع جهده واخلاصه ومدى ما يبني من مداميك ويزرع من ورد في حديقة الحياة . الحياة وجدت لنحياها لا لنعيشها .ثمة فرق، فهي ليست ان تأكل وتشرب وتنام وتعمل وان تكون رقماً على اليسار او على اليمين . الحياة ان تستمتع بما وهبك الله من نِعم وما سخّر لك من مُتع الدنيا .ان تتذوق شربة الماء التي تحيي او تميت مقطوعا في الصحراء، ان تحس بسخونة رغيف الخبز وتشم رائحة القمح وتتذكر انه كان سنابل تعانقها الرياح ويرويها عرق الفلاح ،»الرغيف قمر الفقير» ، فليكن قمرك ايضاً انت يا من ملأت بطنك باللحم المجمد والمستورد وبالدهون والشحوم وبالبلدي الذي ذبح حلالا وأكلته حراماً . نحن في زمن الشبكة العنكبوتية .بكبسة زر تشعل الشمس وبكبسة تطفئ القمر .
بكبسة تحسب كم اصبح رصيدك الذي سرقته من جيوب ناس اهترأت جيوبهم وتكلست عظامهم واصبحت معداتهم في ظهورهم، ناس طعام اطفالهم في افواه ناس لا تشبع، تاكل مال اليتيم ولا تشفق على يد كسرها التعب وظهر انحنى لالتقاط رزق ابنائه .
لقد اصبحنا عناكب في الشبكة التي لم نحسن استخدامها، فلم يكن يقصد البريطاني تيم تيرنر الذي اخترع الشبكة عام 1989 ان تستخدم للكلام بين الاصدقاء والجارات وملء وقت الفراغ باللاشيء . لااقول «اوقفوا هذه الارض عن الدوران اريد ان انزل» لكني اضبط ايقاع حياتي على ما تيسر من خبز وورد وحب .اعود اليّ كلما شدني الوقت الى ما لا اريد .اتوازن لاشعر بمتعة الحياة دون نفاق ومنافقين ولصوص وفاسدين ومن على عيونهم غشاوة سميكة من دهون الزمن السريع ودخان السيارات ومهزلة السباقات التافهة نحو الغابة . امضيت اسبوعين في حضن باسل وحسام ولدّي وابنائهما وقيس وأوس وسيف وسادين الذين يعيشون في الكويت مسقط رأسهم .نعم في حضنهم، فكم نحتاج في هذا العمر لمن يحضننا وخاصة اولئك الذين انجبناهم وربيناهم وحضناهم. كنت انا وامهم نشعر خلال زيارتنا اننا استبدلنا الادوار معهم. هم يوقظوننا صباحا، يسألوننا ماذا نحب ان نأكل، اين نود ان نذهب، يمسكون ايدينا حين نقطع الشارع، يأخذوننا الى الاماكن التي كنا ناخذهم اليها صغاراً . ما اجملَ ان يصبح ابنُك أباك . وما اروعَ الحياة حين تكون بسيطة، تلتهمها بتذوق لا ان تلتهمك بلا منطق !
الدستور