تشكل الديمقراطية قوة هائلة في تحريك المجتمعات ، وأرضية خصبة لكي يفهم المواطنون حقوقهم وواجباتهم ، وتفسح المجال للجميع للنقاش الحر، والتوجه إلى العقل لإقناع الآخر. وتفتح آفاقاً جديدة للإبداع في كثير من المجالات ، وتدير الصراع السياسي والاجتماعي بشكل سلمي.
الديمقراطية ليست في إشراك المواطنيين في الانتخابات فقط ، ولكن في أخذ دورهم في مراقبة النظام السياسي في استجوابه ومساءلته . وتعمل الديمقراطية بشكل أفضل عندما تكون النقاشات العامة جيدة، وعندما يعلو مستوى الحجج والبراهين ، وعندما يساهم المواطنون ويلتزمون في مسؤولياتهم السياسية.
والديمقراطية مفهوم حديث نسبياً في تاريخ البشرية، لم يتجاوز الأخذ به الثلاثة قرون . وهي ليست ثوباً يفصّله المفكرون لتلبسه الشعوب . وليست شيئاً طبيعياً يأخذ بها الناس للخروج من ظلم الحكام ، أو اقتباساً عن الآخرين لحل مشاكل الحكم في البلاد . بل هي مفهوم تكوّن من خلال التجارب الإنسانية المتعددة المتعلقة بمصدر وشرعية السلطة السياسية ، وتنمو الثقافة الديمقراطية بشكل تدريجي بالفكر والتجربة والتطبيق، وهي سلوك جماعي يحتاج إلى مواطنيين واعين .
ومن الضروري أن يُقبل بالديمقراطية كقاعدة أساسية لحل الصراعات بشكل سلمي عن طريق الحوار العقلاني المنفتح بعيداً عن العصبية والسلطوية .
وتظهر الديمقراطية في كل ركن من أركان الحياة العامة كاحترام الرأي الآخر وقبول سيادة القانون . وهذا السلوك يعكس وعياً ونضوجاً لدى المواطنيين يؤثر إيجابياً على الحياة السياسية لدى أصحلب الرأي والرأي الآخر.
فهل يمكن بعد هذا الاستعراض لمفهوم الديمقراطية أن يصير العرب ديمقراطيين ويصلوا إلى بناء الدولة المدنية الديمقراطية التعددية؟.
لم يكن مفهوم الديمقراطية معروفاً في مسيرة العرب، وكان الحكم العربي حكماً فردياً، يتولى الحاكم حكمه إما بالمبايعة من عدد قليل من الناس ، أو عن طريق القوة . ويملك سلطة مطلقة يعتبرها هبة من الله عز وجل ، ولا يقبل المساءَلة من مواطنيه.
وليس الوضع العربي القائم الآن بعيداً عن تاريخه القديم. والحكم في أغلب الأنظمة الحالية إما عائلي أو عشائري أو شمولي عسكري أو مدني أو خليط من هذا وذاك.
ومع ذلك لا يمكن الجزم بمستقبل العرب لأن في أعماق كل إنسان نزعة إلى الحرية ليعيش في مجتمع مدني تتوفر فيه حريته الكاملة. وبتبدل الأوضاع المعيشية والثقافية للإنسان العربي . فسوف يتقدم في مجال الديمقراطية التي هي فكر وثقافة وممارسة. والديمقراطية التي يجب تطبيقها هي التي تستند على حقوق الإنسان وهي أفضل صيغة للحكم .
الحالة الآن:
يعيش المواطن العربي اليوم في الحالة الرمادية ، وهذا يعني أننا في أسوأ حالة .لأن جزءاً من تردي ما وصلنا إليه هو الخلل الذي أصاب فهمنا لنظرية الإصلاح والتغيير الذي نسعى إليه . وإن المعضلة التي نعيشها في هذه المرحلة ، هي أننا نقول أكثر مما نعمل . وأننا نستعمل الإنشاء الممل في كل برامجنا . وعندما تتضح الأمور ، ويصبح كل ما قلناه عن برامجنا غير قادرة على التماهي مع الحاضر الذي نعيش ، والمستقبل الذي نرنو أليه.
والمشكلة في حكوماتنا المتعاقبة أنها تطرح في برامجها ، كل ما ترغب ، وتتحدث عن قضايا أساسية دون أن تتفق على مفهوم واضح في كل برامجها ، ولا يعكس ذلك على خطأ في الفهم والإدراك وحسب ، ولكن خطورته تمتد إلى السلوك وإلى الممارسة التي تمارسها بشكل معكوس.
إن الشعب يعي مسؤولية الحكام ، ولكنه لن يبرر عدم قدرتهم على الإصلاح والتغيير . فإما أن يحكموا ليصلحوا ، وإذا لم يستطيعوا فليتخلوا عن الحكم.
إن التكتيك الاستيزاري الذي تمارسه الحكومات ، يقوم على مبدأ تسكين الصداع ، يضع أمام الشعب جميع فئات الحكم المستوزرة على صعيد واحد. كما إن الاستيزار الإصلاحي دوران عقيم في حلقة مفرغة .
إن الحكومات التي تريد قصر الإصلاحات على إصلاحات صغيرة ، فإنها تخدع الشعب وتضلله ، لأن الاكتفاء بالتقاط الفتات لن يلغي الفساد المستشري ، ولن يعيد أموال الشعب المنهوبة .
إن اللعبة البرلمانية ستظل قائمة ، ولكنها لن تكتمل في ظل وضع المجلس الحالي، حيث ينعدم الطيف السياسي الفاعل، ويضمحل التوجه السياسي المؤثر. وهو لا يعدو أن يكون جزءاً من شعوب العالم الثالث. فالنظام البرلماني نشأ مع نشوء الرأسمالية ، وتطور بتطورها، وقد أدى ذلك إلى نقل مركز النشاط السياسي من قاعات البرلمان إلى كواليسه، وأصبح كل شيىء يتم في الكواليس ، وكل شيىء يُمثل على مسرح البرلمان.
إن وجود عدد قليل من المثقفين ، ممن يتمتعون بخلفيات فكرية وسياسية ، لن يحدّ من سلطة الذين بأيديهم الثروة ووسائل الدعاية والنفوذ . فهل يمكن الزعم بأن البرلمانات ستكون أداة تحويل اجتماعي؟ . وهل يعني ذلك إذا كان الجواب بالنفي أن نعتزل العمل البرلماني؟.
إن المطلوب هو أن نمارس العمل السياسي على جميع الجبهات وفي جميع القطاعات .
و إن المطلوب هو العمل للوصول إلى الاستقرار ، من أجل خلق مناخ إيجابي للسلطات الثلاث التشريعية و التنفيذية و القضائية .