الـقـوميَّـة العـربيّـة حصن الأمـة الحصين
محمـود الشـيبي
20-04-2016 03:18 PM
الأمـم الحـيّـة تعتـز بقوميتها وتاريخها الـتـلـيـد ومجدها الغابـر ليكون لها دافـعـاً تُذكي به همم أبنائها ليعملوا من أجل عـزّة الوطن ومنعته. وقد كان العرب في الجاهلية قبائل مشتتة جمعها الإسلام في دولة واحدة، وصار العرب قوة اقتصادية وعسكرية واجتماعية تمكنت من بناء حضارة عظيمة. وانتشرت الفتوحات الإسلامية في عهد الدولة الأموية، التي اعتمدت على العنصر العربي، مما ثـبّـت أركان الدولة وحمى أمنها، فعَظُـم شأن العرب ، إلاّ أنّ الأمر لم يبـق على حاله، فسقطت الدولة الأموية لسببين: أولهما الخلافات الداخلية بين بني أميـة، وتنازع السلطة، وثانيهما، الظلم والفساد الذي انتشر في الدولة.
وجاءت الدولة العباسية لتكمل الفتوحات، وفي عهدها ازدهرت الحضارة العربية وتقدم العلم والمعرفة، غير أنّ خلفاء بني العباس أخذوا يعتمدون في حكمهم على العنصر غير العربي، فتغلغل الفرس والترك في مفاصل الدولة المختلفة مما كان السبب الرئيس في سقوط الدولة العباسية. ويعد عهد الخليفة المعتصم نقطة فاصلة في تاريخ الخلافة العباسية، فقد قام المعتصم بتكوين جيش من الأتراك يدينون له بالولاء، ونهج ابنه الخليفة الواثق نفس النهج في تقريب الأتراك والإعتماد عليهم، حتى أصبح لهم السلطة والأمر في الخلافة، وأصبح الخليفة ألعوبة في أيديهم. وبدأوا يتدخلون في البيعة، ويتحكمون فيمن يتولى الخلافة من أسرة العباسيين. فقد عـمـد القادة الأتراك إلى قتل الخليفة المتوكل وولوا ابنه المنتصر مكانه، وكانت هذه الحادثة إيذاناً ببدء سلسلة طويلة من قتل وعزل الخلفاء بعد أنْ ضاعت كرامتهم على يد الأتراك الذين استقدمهم المعتصم. فحل الضعف والتفسخ في الدولة العباسية، وأدّت النزعة الشعوبية إلى انتهاء عصر الإزدهار العربي، فـأفـل نجم العباسيين، وانتهى الحكم العباسي في بغداد سنة 1258م على يـد هولاكو خان الـتـتـري الذي أقدم على نهب وحرق بغداد، وقتل أغلب سكانها بما فيهم الخليفة وأبنائه.
وإذا كانت النزعة الشعوبية قد ساهمت بشكل فعَّال في سقوط الحكم العربي العباسي، فقد أطـلّـت هذه النزعة السامة برأسها هذه الأيام، ونراها واضحة المعالم في سوريا العربية. فشمال وشرق شمال سوريا كان عربياً عبـر التاريخ كبقية الأراضي السورية، وكان يسكن هذه المنطقة قبائل عربية منها قبيلة ربيعه، وكانت مدينة الـرقـة مـقـرّ راحة واستجمام لخلفاء بني العباس، ولم يكن للأكراد وجود على تراب هذه المنطقة، وجغرافياً لا تمثل هذه المنطقة امتداداً جغرافياً لكردستان العراق. غير أنّ التسامح العربي وعدم وجود تنظيم لهجرة الأكراد إلى شمال شرق سوريا، دفع هذا العنصر غير العربي إلى الإستقرار في هذه المنطقة، فالحسكة والقامشلي وعين العرب لم يكن للعنصر الكردي فيها وجود حتى عام 1959م. وكان أهلها وسكانها قبيلة عْـنـزه العربية، وفي زمن دولة الوحدة الجمهورية العربية المتحدة التي قامت بين سوريا ومصر عام 1958م تمردت قبيلة عنزه على الدولة ، ورغبت بالإنفصال وإقامة دولة في شمال وشمال شرق سوريا وعاصمتها حلب، فتصدى لهذا التمرد الجيش السوري وسحقه، فهاجر مئات الآلاف من عديد قبيلة عنزه إلى السعودية. أمّا الأكراد فقد جاؤا لسوريا زمن مصطفى كمال أتاتورك مؤسس جمهورية تركيا الحديثة بعد سقوط الخلافة العثمانية ، ففي 21 آذار 1925 انتفض الأكراد ضد الحكم التركي بقيادة سعيد بيران، ففشلت الإنتفاضة وأُعْـدم بيران في 30/5/1925م، وتم سحق الحركة الكردية بعنف، فهاجر أعداد كبيرة من الأكراد فراراً من الموت إلى سوريا، وأقاموا في بلدة عفرين الواقعة شمال غرب حلب، ومنها تمددوا شرقاً باتجاه عْـزاز قرب حلب، ثم إلى عين العرب والحسكة والقامشلي، وفي هذه الفترة هاجر أكراد من كردستان العراق إلى سوريا، واستقروا مع أبناء جلدتهم أكراد تركيا في سوريا. ولهذا فإنّ أعداداً كبيرة من الأكراد المقيمين في سوريا لم يكونوا يحملون الجنسية السورية، إلى أنْ قامت الثورة السورية عام 2011م، فوافق النظام السوري على منح ( 400000) أربعمائة ألف كردي جنسية سورية، بقصد كسب ودهم ليقفوا مع النظام ضد الثوار العرب، وهذا ما نشهده في هذه الأيام واضحاً للعيان. أمرٌ مؤسف أنْ تُـقْـضم الأرض العربية تدريجياً والعرب لاهون، ويعجزون عن أنْ يُـقدموا أنفسهم إعلامياً، فمثلا مدينة عين العرب السورية وتتبع محافظة حلب، أنْشأها الأتراك العثمانيون عام 1892م، وكانت تُسمى في العهـد العثمـاني "عرب بينار" وترجمتها العربية هي ( عين العرب) لكثرة عيون المياه فيها، ومع مشروع خط سكة حديد بغداد بين عامي 1911 - 1912 الذي يمر فيها بدأت تتحول إلى تجمع سكاني عربي مهم، وقد قطن الأكراد عين العرب عام 1925م، وكانوا يسمونها بلغتهم " كاني عربان" أي عين العرب. أما ما يُطلقه عليها الأكراد حالياً (كوباني) فهي معرّبة أو محرّفة من كلمة (كومباني) company بمعنى شركة إشارة إلى الشركة الألمانية التي بنت خط الحديد، لكن الأكراد نجحوا إعلامياً بتغيير الحقائق في غياب إعلام عربي يُـوضح الصورة ويقدم الحقائق لمواطنيه. لـقد استغل الأكراد الحرب الداخلية في سوريا التي بدأت عام 2011م ليعلنوا إقامة دولة لهم على التراب العربي السوري،بعد أنْ تمكنوا من الحصول على السلاح من النظام السوري، ثم تسلحوا من الأمريكان ومن الروس، واستقدموا أعداداً كبيرة من أكراد كردستان العراق ومن تركيا، وهم الذين يقاتلون حالياً مع النظام الحاكم ضد الجيش السوري الحـر، ويرتِّـبـون أمورهم من أجل الإنفصال ، وقد تمكنوا من تهجير العرب من أراضيهم بالقوة المسلحة .
من حق أبناء قبيلة عْـنزه أنْ يعودوا إلى مدنهم وقراهم في سوريا، كما أنّ من حق الأكراد الذين استضافتهم سوريا على أرضها عبر عشرات السنين أنْ يعودوا لموطنهم الأصلي في تركيا والعراق. وهذا ما يجب على الحكومة السورية القادمة أنْ تفعله إحقاقاً للحقوق، ودرءً للأخطار المحدقة بالعرب من الشعوبية والشعوبيين. وإنّ من أولى واجبات المعارضة السورية أنْ يُوضحوا للعرب وللعالم هذه الصورة الخفية عن الرأي العام العالمي . إنه أمر عجيب وليس العجب بغريب أنّ من أتى من تركيا إلى سوريا فاراً من الموت يَـطْـردُ مَـنْ استضافه ورحّب به على أرضه، ليقيم له دولة على أشلاء العرب وعلى الأرض العربية. أمر مؤسف أنْ يصبح العربي غريباً في وطنه مطروداً مطارداً. وهذا يذكرنا باحتلال تركيا للإسكندرون السوري بتواطؤ فرنسي عام 1939م، كما يذكرنا باستيلاء إيران على عربستان العربي عام1925م بتواطؤ بريطاني، فهل سيتمكن الأكراد من قضـم جزء من الأرض العربية السورية؟!. وهل سيحذو الأرمن في سوريا حذوهم؟!.
من حق الروس أن يكون لهم دولة، ومن حق الإيرانيين والبريطانيين والفرنسيين أن يكون لكل منهم دولة واحدة، لكن ليس من حق العرب ان يتوحدوا في دولة واحدة وهم من عرق واحد وجنس واحد وأبناء لغة واحدة ودين واحد!. كلٌّ ينتسب لـقـومه ويعتز بـقـوميته، أما العرب فحرام عليهم الإنتساب لقومهم والإعتزاز بـقـوميتهم، لأن القومية تعصب بالنسبة للعرب، في حين أنها أمر طبيعي بالنسبة للآخرين.
عندما حلّ الضعف بأمة العرب طمع بها الأعداء، وطمعت بهم الدول الأخرى، وأصبح القرار العربي رهينة دول معينة، وأصبحنا نُـقْـتـل كالخراف، وكأني بقول الشاعر:
صرنا نُسـاق إلى الجـزّار يذبحنا مثل الخـراف ولكن ليس يعْـنـيـنـا
أما السبب الرئيس لضعف العرب فهو الدولة القطرية وتشتت العرب في دول عديدة، وظلم الحكام ، وحكم الإستبداد، وهو على نقيض ما كانت عليه الأمة في زمن عـزتها وقوتها. فهذا الخليفة عثمان بن عفان ( رضي الله عنه) يرسل رسالة للولاة عندما آلت إليه الأمور يقول فيها:" إنّ الله أمر الأئمة ( الحكام) أنْ يكونوا رعـاةً ، ولم يأمرهم أنْ يكونوا جباةً. وإنّ صدر هذه الأمة كانوا رعاةً، ولم يكونوا جباةً. وليوشكنَّ أنْ يكون الأئمة جباةً، وليسوا رعاةً، فإذا صاروا كذلك، انقطعت الأمانة والحياء والوفاء"، وهذا ما نـراه بأم أعيننا في عصرنا الحاضر، يقول عمر بن عبدالعزيز( رضي الله عنه):" إنّ الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً". إنّ حكام الوطن العربي في هذه الأيام أصبحوا جباةً، والمواطن لا يجد دولة ترعاه وتهتم بشأنه، والحاكم يُـقرب المتزلفين والمنافقين، فتختلط عليه الرؤيا. إنّ الحاكم الذي يـعْـتَـدْ على تقريب المدّاحين والمتزلفين تضيع بذلك عليه حقائق الحياة. وإنّ الحاكم الذي يحب أنْ يؤيده مستشاروه يفشل، على عكس الحاكم الذي يرغب بأنْ يصارحوه الرأي. وقد ابتُليت الأمة العربية بحكام يحبون المتـزلـفـيـن ويعملون لمصالحهم الخاصة، ولا يهمهم الوطن إلاّ بمقـدار ما ينفع مصالحهم ، وهكذا أصبح المشرق العربي ميداناً للقتال والقتل، يستهزيء بنا العالم، ويتنـدّر بضعفنا، ولم تـعُـدْ العيون ترانا لأننا انحنينا للآخرين ونحن نمتلك أسباب القوة دون أنْ نُـفـعِّـلها، ولأننا سجدنا لغير الله، ولأنه قال سبحانه " وأعـدّوا لهم" فتخاذلنا ولهونا، والأمم الحيّة تبني ونحن نهدم، فمتى نُـعـدّ للوطن ونُـعْـلي البنيان. إنّ الأمة العربية قادرة على أنْ تعيد مجدها، وتبني عـزاً جديداً لها إنْ تـوفـرت لهـا الإرادة، وعندما تُـدرك أنّ القومية العربية هي حصن الأمة الحصين، وفي هذا يحضرني قول الشاعر:
وما استعصى على قـومٍ منـالٌ إذا الإقـدامُ كان لهم ركـابـا
على انه لن يستقيم للعرب قناة إلاّ بوحدتهم، واعتـزازهم بقوميتهم، وبوضع إمكانياتهم التي سخّرها الله لهم في مصلحة الوطن العربي . والإرادة يصنعها الرجال المخلصون الذين لا ينامون على ضيم . ولِـمَ لا نعتز بقوميتنا وعروبتنا والله يخاطب رسولنا الكريم بقوله " وإنّه لـذكر لك ولقومك" أي شرف لك ولقومك العرب. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إنّ الله اختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضـر، ومن مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهـم ومن أبغض العرب فببغضـي أبغضهـم". ولا يتنصّل من قوميته إلاّ المرضى وضعاف النفوس والجهلة،ورسول الله يقول:" أحب العرب لثلاث لأني عربي، ولأن القرآن عربي، ولأنّ العربية هي لسان أهل الجنّة". ولفضل العرب وردت آياتٌ كثيرة تؤكد عروبة القرآن " إنّا أنزلناه قرآناُ عربياً لعلكم تعقلون" (الرعد،37)." وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً ليُنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين"( الأحقاف، 12). وها هو الشريف الهاشمي الحسين بن علي يقول في خطاب له أمام الوفود العربية التي جاءت للترحيب به في عمان في كانون الثاني عام 1924م :" لا أتنازل عن مبدأ واحد من المباديء التي هي أركان النهضة العربية، ولن أتنازل عن حق واحد من حقوق البلاد، ولا أقبل إلاّ أنْ تكون فلسطين لأهلها العرب، لا أقبل بالتجزئة ولا الإنتداب، ولا أسكت وفي عروقي دم عربي، ولن أوقع معاهدة إذا رُفضت مطالبي وهي استقلال كل الأقطار العربية، وإني عامل دائماً في سبيل الوحدة العربية والإستقلال التام، أقول الإستقلال التام للأقطار العربية كلها ". كما أكد في آخر تصريح صحفي له في العام 1929م قوله :" إنّ نفيه في قبرص كان نتيجة تعلقه الشديد بالقضية الفلسطينية". أما الملك حسين رحمه الله فقد كان حبه للأردن أقوى من حبه للمُـلْـك، ففي عام 1990م قام بزيارة للمملكة العربية السعودية، وشرح للملك فهد بن عبدالعزيز الوضع المالي للأردن، وأبلغه بأنه لا يستطيع أنْ يكون ملكاً على شعب يقاسي ومديون، وبدون مساعدات، وأنه اقترح توحيد السعودية والأردن، ويصبح الملك فهد ملكاً عليها، وأنه يريد التخلي عن الملك، فقال الملك فهد :"أعـوذ بالله". فقال الحسين:" إذاً لا يجوز معاملتنا بهذا الشكل". فالوحدة العربية وضرورتها كانت دائماً هاجس الهاشميين، والمبدأ الأول من مباديء الثورة العربية الكبرى. ورحم الله جمال عبدالناصر فقد أدرك خطر التجزئة والدولة القطرية العربية ، فنادى بالوحدة والقومية العربية، وناضل من أجل بناء قوة عربية وأمة عزيزة، غير أنّ الموت لم يـمْـهـلـه، فقضى نحبه مبكراً، وتنكّـر لأهـدافه وللعروبة منْ أتى بعده.