تحاول الدول العربية، بلا استثناء، تجاوز التحديات الخطيرة التي نجمت عن أحداث السنوات الخمس الأخيرة، والتي تحاول النيل من استقرارها، وتعمل الدول العربية كذلك على تجنّب أية ألغام يمكن أن تنفجر في أية لحظة وتفتت كيانات الدول وتزلزلها، وذلك من خلال استغلال نقاط ضعف كامنة، أو تهيئة الأوضاع لظهور مثل هذه النقاط التي ستصبح أقرب إلى صدوع تعتمد على تباينات طائفية أو إثنية أو اقتصادية أو فئوية، ومن ثم يتم الضغط بأقصى قوة ممكنة على تلك الصدوع لتعميقها وتوسيعها، وهو ما يمكن في النهاية أن يؤدي إلى تحطّم كيان الدولة من داخله، وتحوله قطعاً متناثرة متصارعة في ما بينها بعنف على الأغلب.
وعلى رغم أن واقع دول الخليج العربية يختلف بقوة عن واقع غيرها من الدول العربية الأخرى التي شهدت مثل هذه الفتن، فإن ذلك لا يعني انتهاء الخطر. وخصوصاً أن هناك من سيسعى دائماً إلى تجريب اللعبة ذاتها مع ابتكار أشكال جديدة للتناقضات والتباينات التي يمكن لها أن تشكّل نقطة ضعف يمكن استغلالها. ولعل الموقف الثابت والقوي للمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في شكل أساسي، كان عاملاً مهماً لمنع المخطط الشيطاني من تحقيق أهدافه.
وفي ظل هذه الظروف، فإنه يبدو من المستغرب أن تشهد عاصمة خليجية، عقد مؤتمر للتعليم الشرعي تقف وراءه وتتبناه جماعة «الإخوان المسلمين»، التي ثبت خلال العقود والسنوات الماضية أنها يمكن أن تكون أقرب الأدوات إلى الاستخدام من الخارج، والتي يدفعها طموح إلى امتلاك السلطة التي كانت هدفها منذ نشأت، وبأي ثمن، لكنها أخفته مكتفية بالتغلغل الخبيث في المجتمعات العربية والإسلامية، وبث قواعد فكرية وتنظيمية لها حيثما استطاعت، منتظرة اللحظة التي تكشف فيها عن وجهها الحقيقي.
إن مثل هذا المؤتمر، الذي يسعى إلى تكريس تعليم شرعي يتبنى وجهات نظر «الإخوان» وأفكارهم، ستكون له تداعيات كثيرة على مستوى المنطقة، فهو يحاول أن يخلق مرجعية للتعليم الشرعي تكون بديلة لمؤسسات دينية عريقة عرفت باعتدالها ووسطيتها وابتعادها عن الخوض في أمور السياسة، مثل الأزهر في مصر، والقرويين في تونس، وهيئة كبار علماء المسلمين في المملكة العربية السعودية. والغريب أن تأتي هذه الخطوة في الوقت الذي تهتم فيه دول الخليج العربي بتنقية المناهج الدراسية، ولا سيما مناهج التربية الإسلامية، مما شابها من أفكار تعطي صورة خاطئة عن الحضارة الإسلامية والدين الإسلامي السمح الذي يدعو إلى التآخي والتواصل والانفتاح على الآخر، وهكذا يمثّل هذا المؤتمر خطوة إلى الوراء في هذا الاتجاه، وكأننا لم نتعظ بما فعله عدد من المدرسين «الإخوان» الذين فتحت لهم دول الخليج أبوابها في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، فحاولوا «أخونة» المناهج والمدارس، ودسوا السمَّ في العسل، وأسهموا في تخريب أفكار عدد كبير من النشء في المنطقة. وهو ما احتاج بعد ذلك إلى خطوات وجهود كبيرة لمعالجته، ولعل أكثر تلك الخطوات جرأة كان قرار المملكة العربية السعودية بتصنيف جماعة «الإخوان المسلمين» كتنظيم إرهابي، وتعميم وزارة التربية والتعليم في السعودية قبل ستة أشهر بسحب كتب جماعة «الإخوان» من المدارس ومنع تداولها، حماية للمجتمع من الأفكار المتطرفة والخطيرة التي تدعو إليها.
ولا شك في أن انعقاد هذا المؤتمر برئاسة الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين علي محيي الدين القره داغي، يتيح لهذا الاتحاد أن يعود من جديد، ومن خلال التعليم، إلى ممارسة الدور السلبي الذي ظهر جلياً عقب أحداث ما سمي «الربيع العربي»، وخصوصاً أن يوسف القرضاوي الذي يعد الواجهة العلنية للتنظيم العالمي لـ «الإخوان»، لا يزال الفاعل المؤثر في هذا الاتحاد، وإن من وراء ستار.
ويلاحظ أن أكثر المشاركين في المؤتمر هم من أعضاء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذين يترأسون لجان المؤتمر، ما يعني أن هذا المؤتمر يحاول أن يعطي جرعة منشطة لـ «الإخوان» ليمارسوا مخططاتهم عبر أشخاص ينتمون إلى هذه الجماعة أو يتبنون أفكارها، ومن خلال مفصل جوهري من مفاصل الحياة هو التعليم الشرعي، الذي يتصل بفروع كثيرة من فروع العلوم الإنسانية، كاللغة العربية والحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي والتربية الوطنية وغيرها.
يشهد التاريخ أن الحكومات في دول الخليج العربي في شكل خاص قد بذلت ما بوسعها لكي تستعيد الفروع التابعة لجماعة «الإخوان المسلمين» إلى الصف الوطني، غير أن هذه الجماعة المتشبثة بامتدادها في الخارج، والمتمسكة بولاءٍ لجهات خارج أوطانها، لا تزال تحاول التغريد خارج السرب، وتستخدم المناورة حيناً والخداع والكذب حيناً لتتملص مما هو واجب عليها.
لقد اقتضت المصلحة الخليجية اتخاذ إجراءات ضد جماعة «الإخوان المسلمين»، وإنهاء تمددها الذي كانت تسعى إليه بطرق خبيثة وملتوية، والقضاء على خلاياها اليقظة والنائمة، وقطع مصادر تمويلها وخطوط اتصالاتها.
المصلحة الخليجية واحدة. والخطر الذي يهدد أي دولة من دول الخليج يهدد الدول الأخرى بالضرورة. ومن المستغرب مع هذه الحقيقة الواضحة أن تُعْطى جماعة «الإخوان المسلمين» مثل هذه الفرصة، فهي بلا شك ستنتهز تنظيم «مؤتمر التعليم الشرعي» لعقد الاجتماعات والمشاورات غير المعلنة، التي لا يتمخض عنها غير تعزيز مناخ الاضطراب وتقويض استقرار المنطقة.
المسؤولية تقتضي من كل دول مجلس التعاون أن تصطف الآن لعبور المرحلة القادمة من دون خسائر، وهذا واجب تفرضه عوامل القربى والجوار وحقوق الأخوة، مثلما تفرضه المصلحة المشتركة. وإذا كان لدول مثل إيران وتركيا مشروعاتها في المنطقة، فإن مشروع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية يجب أن يكون خيار الدول الأعضاء جميعاً، وقوامه الحفاظ على وحدة دولنا واستقرارها، وتأمين الجوار الإقليمي وعدم السماح بالعبث به، وضمان استدامة التنمية والرخاء اللذين تحققا على رغم كل الصعوبات والتحديات، والقضاء على كل أشكال التطرف والتشدد وجماعاتهما التي تهدد أمن المنطقة واستقرارها.
إننا في هذه المرحلة أحوج ما نكون إلى مواجهة التحديات ككتلة متماسكة. وعلى رغم الإقرار بحق كل دولة في صياغة سياساتها على النحو الذي يحقق مصالحها، فإن من غير المتصور أن تكون هذه السياسات قائمة على السماح لأي جماعة بتقويض الأمن والاستقرار من أجل تحقيق أهدافها. ولا شك في أن عقد مؤتمر التعليم الشرعي يعطي رسالة خاطئة للجهود التي بذلت خلال السنوات الماضية من أجل الحد من الآثار السلبية لهذه الجماعة، ولا سيما أن هذا المؤتمر يسعى وفق منظميه إلى نقل توصياته وخبراته إلى الجامعات العربية والإسلامية. ولذا ينبغي أن تكون هناك جهود مضادة لعزل مثل هذا المؤتمر، ووأد مخططاته في أرضها، وذلك من خلال التمسّك بالمؤسسات الدينية التي تمثل مرجعية للإسلام المعتدل في العالم العربي والإسلامي ودعمها وتعزيز دورها، وجعل هذه المؤسسات المرجع الوحيد والمعتمد في مؤسسات التعليم العربية والإسلامية، تعود إليها في أي عملية تطوير أو تحديث للمناهج الشرعية أو المتعلقة بها، وما لم تقم الحكومات العربية والمؤسسات التربوية فيها بمثل هذه الخطوات، فإننا قد نندم حين لا ينفع الندم.