الأحزاب الأردنية .. أشجار زينة أم دور فاعل؟
د. علي منعم القضاة
15-04-2016 08:59 PM
كان التوجه السياسي للنظام الأردني دائماً هو الاعتدال، والتوازن، والوسطية في الحوار والتعامل مع الأحزاب مما صب في مصلحته للمحافظة على الأردن وبقائه متماسكاً، رغم الرياح العاتية والأمواج الصاحبة للقلاقل والمشاكل المحيطة به من كل حدبٍ وصوب.
وإن الناظر في حال العالم العربي الحزبية يعلم علم اليقين أنه لا توجد أحزاب سياسية بمفهوم الأحزاب البرامجية، وإنما يوجد دكتاتوريات بمسمى حزبي منتشرة في كل أنحاء العالم العربي.
كما إن المتتبع للشؤون العامة ولنشأة الأحزاب السياسية الأردنية، يجد أنها نشأت أثناء الاحتلال الغربي للعالم العربي، وقتها كانت الدولة الأردنية تسعى للاستقلال عن المستعمر البريطاني. ولذلك فإن معظم الأحزاب الأردنية أسست لها علاقات خارج إطار الأردن من النواحي التنظيمية أو العقائدية أو الأفكار والبرامج. ومن هنا يمكن النظر إلى الأحزاب السياسية الأردنية، كامتداد طبيعي لما كان موجوداً من قبل تأسيس الدولة الأردنية.
هذه الفكرة تحديداً – الامتدادات الخارجية - وضحها قبلي العديد من الكُتاب والمهتمين بالسياسة الأردنية في كتبهم غير مرة، بل وقالوا إن الأحزاب الأردنية لا تزال لبعضها ارتباطات مع الأحزاب الأم في الدول المجاورة، سواء أصرحت الأحزاب بذلك أم امتنعت وأنكرت.
تراوحت علاقة الأحزاب الأردنية مع الحكومة بين مد وجزر حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي، حيث علقت الحكومة نشاطات الأحزاب السياسية، وأوقفت الحياة البرلمانية ما بين 1957 و 1989، بسبب محاولة الانقلاب العسكري الذي قامت به الأحزاب السياسية اليسارية آنذاك والتي شهدتها عديد الدول العربية. مما تسببت بوضع الأردن تحت الأحكام العرفية، حتى عام 1989، وقتها سمحت الحكومة بانتخابات حرة ومباشرة.
عادت النشاطات السياسية إلى الظهور من جديد في ساحتنا الأردنية، ولكن ما حصل أن قدامى الساسة الذين يحملون أفكاراً وأيديولوجيا سياسية لها امتدادات خارجية، وممن جُمدت أحزابهم أعادوا تشكيلها من جديد. دون فهم حقيقي لروح الديمقراطية، ولا نضج كامل لتفهم الآخر، ولا إيمان بأنه يوجد شي اسمه الرأي الآخر.
وبالمقابل فإن الحكومات المتعاقبة وحتى الحالية 2016 لم يتسع صدرها لسماع وجهة نظر معارضة، وقد كان الاعتقاد أن كل من يبدي وجهة نظر مخالفة فهو مأجور أو مندس أو عميل لجهات خارجية أو نحو ذلك، وعلى سبيل المثال: فإن الحكومة عندما تستمع إلى نقد ما فإنها لا تفسره من باب النصيحة أو التوجيه أو التحذير من الوقوع في الخطأ، ولكنها تتعامل معه بنوع من التوتر والحساسية، فهي لا تفكر بطريقة الحوار السياسي، لذلك فإن كلا الطرفين ينكر أو يتجاهل الآخر أو ادعاءات الآخر في أكثر من موقف وموقع.
وبالرغم من الضعف الذي كان يعتور الحياة البرلمانية في الأردن بسبب الأحكام العرفية، وبسبب الانقطاع الذي دام 35 عاماً. صارعت الأحزاب السياسية من أجل البقاء، ووجدت نفسها مضطرة لأن تعيد تنظيم بناها التحتية، لتشارك في الحياة العامة (السياسية) وبطرق مختلفة.
صدر قانون الأحزاب الأردني الأول عام (1992) والذي ينظم إنشاء أو تكوين أحزاب سياسية، والذي كان يجيز لخمسين شخصاً تأسيس حزب، وما لبثت الأحزاب السياسية أن انطلقت بمسميات مختلفة، وأتخمت الساحة الأردنية بأحزاب من كل الأطياف. وسرعان ما تقدم ما يقارب من ثلاثين حزباً بطلبات ترخيص لإنشاء أحزاب سياسية بعد صدور القانون.
قانون الأحزاب الأردني الأول عام (1992) أفقد الأحزاب مضمونها، حيث كان بمقدوري أنا أن أحمل معي كشفاً من كشوف علامات طلبتي بإحدى الشعب التي تزيد عن خمسين، وأذهب به إلى وزارة الداخلية كي أقوم بتأسيس حزب سياسي؛ دون وجود خبرات سابقة في العمل السياسي، خصوصاً لدى الأعضاء حديثي السن الذين كانوا لا يعرفون ما هي الديمقراطية ولا كيف تكون، فقد ولدوا في ظل الأحكام العرفية، وهو أمر غير منطقي ولا مقبول، وقد أسس بنيان الأحزاب على جرفٍ هارٍ فانهار بهم فيما بعد. لهذه الأسباب ونتيجة لفترة الانقطاع الطويل، ولدت الأحزاب السياسية الأردنية هزيلة، تعاني من ضعف عام، وقلة خبرة سياسية علنية، وعدم ترابط أو تماسك، ولدت أحزاباً مبعثرة دون خطط أو برامج سياسية حتى بعد ترخيصها.
إن وجود كم هائل من الأحزاب السياسية لتمثيل مجتمعٍ صغيرٍ نسبياً لم يتجاوز عدد سكانه خمسة ملايين نسمة عام 1992، وفي فترة نمو قصيرة جداً، وهي فترة غير طبيعية أوجدت مخلوقات سياسية مشوهة، تُعاني من الاضطراب والضبابية والتشوه انعكست بكل تأكيد على مشهد الحياة السياسية الأردنية؛ مما جعل هذه الأحزاب تعاني من كثرة الازدحام، وقلة عدد المنتسبين إليها، حيث تجد بعضها ليس لديه النصاب القانوني أو الحد الأدنى من المنتسبين، ولا حتى مصادر تمويل تمكنهم من استئجار مقار لاجتماعاتهم وأحزابهم.
فهل يعقل أن حزباً سياسياً لا يستطيع تجميع النصاب القانوني من مؤيدين أو منتظمين في صفوفه، إلا بعد تحالفات وتجمعات من أحزاب سياسية أخرى لها وجهات نظر أو قواسم مشتركة أن يقود حكومة!!؟؟ أو أن ويرسم سياسة، يناقش بها رؤساء حكومات لهم مئات المستشارين، الصادقين والمخلصين في عملهم ويبني علاقات خارجية مع دول وتحالفات إقليمية وعالمية.
وبحكم تجربتي ودراستي الأكاديمية عن وضع الأحزاب السياسية وتأثيرها في الحياة العامة في الأردن، فإنني أعتبرها أشجار زينة توضع في مدخل البيت لتزيين الصورة الخارجية، ولإضفاء نوع من "البريستيج" والصورة الجمالية على الحياة العامة دون أن يكون لها تأثير قوي، حيث يبدو معظمها كنوع من الزخرفات، أو أشجار الزينة المنزلية، لتزيين البيت الأردني ليس أكثر، ولا فاعلية حقيقية له، ولا وجود بارز لأعضائه في الحياة العامة. وإنني أجزم وأعتقد بالقول إنه لا توجد أحزاب سياسية أو برامجية حقيقية في الأردن، بل إنه من الصعوبة بمكان أن نصنف حزباً سياسياً على أنه حزب برامجي ناضج.
وفي الأردن وبعد مضي ربع قرن على قانون الأحزاب الأول تبدو الصورة العامة للأحزاب أو الخريطة السياسية الحزبية في الأردن وكأنها لم تستقر بعد، ولم تنفع كل الجراحات التجميلية لقوانين الأحزاب السياسية المتلاحقة، بل زادت الأمر غموضاً، وزادت الأحزاب تعثراً.
إضافة إلى ضعف الأحزاب الأردنية الطبيعي، وخلع الولادة الذي تعاني منه، فإن الأحزاب السياسية في كل الدول العربية من شرقها إلى غربها والتي وصلت إلى سدة الحكم، لم تعط مثالاً واحداً يُحتذى على الإطلاق في تعاملها مع شعوبها، أو في التعامل مع الأحزاب السياسية الأخرى، ولم تقدم صورة ناصعة، ولا حتى بيضاء، بل قدمت أمثلة يمكن أن توصف بالنماذج الفقيرة جداً في المجال الحزبي، وهي نماذج بامتياز للدكتاتورية العقيمة، والتطرف والتعسف في استخدام السلطة، وفي التعامل مع الشعوب. ولم يكن فيها ما يشجع الناس على الانضمام إلى الأحزاب السياسية أو حتى لدعمها.
وفي الأردن فإن بعداً هاماً وحيوياً يدخل على الأحزاب السياسية هو البعد (أردني – فلسطيني) والذي كان سبباً في تشتت أكبر تجمع حزبي في الأردن، أو تجمع له كيان حقيقي على الساحة الأردنية شئنا أم أبينا، تحدثنا بوضوح أم دفنّا رؤسنا بالتراب كالنعام متعامين عن هذه الحقيقة، وإن الانقسام الحاصل في جماعة الإخوان المسلمين كانت هذه هي أسبابه الحقيقية، أو هكذا إدعت الأطراف المتناحرة؛ في تصريحاتهم التي نقرأها يومياً لرموز كلا الطرفين، كل ينطلق من مسبباته ومبرراته.
الكل يعلم أنني لست منتظماً في صفوف جماعة ولا جمعية ولا أي حزب سياسي لعدم قناعتي بها، وتزداد قناعتي وتترسخ يوماً بعد يوم بعدم جدوى أي من الأحزاب السياسية. ولن أخوض في حيثيات الانفصال أو مسببات تشتت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن؛ لأنه ليس الأهم من وجهة نظري، بالرغم من أنه السبب في كتابتي لهذه الكلمات، لكن المحافظة على اللُحمة الداخلية هو الأهم، فأي شرخ بين مكونات المجتمع خارج الأطر الحزبية له عواقب وخيمة، بل ومدمرة.
فالعلاقات الأردنية الفلسطينية تبدو الأكثر تعقيداً والأكثر أهمية في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وهي علاقة مميزة وذات معنى خاص، وهي الحديث اليومي للشارع الأردني بسبب العلاقات المتينة بين الشعبين، وبسبب المواقف والعلاقات التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والجغرافية والديموغرافية والسياسية بين الأردن وفلسطين. إنها علاقة تسمو على كل الحكومات في البلدين، كما إنها أقوى من أية خلافات قد يفتعلها أُناس هنا أو هناك، ولا يمكن أن تنال منها كل الاختلافات السياسية، ولا ظروف التوتر التي تسود منطقة الشرق الأوسط قاطبة.
هذا القرب المكاني والتقارب بين كل من الأردن وفلسطين وعلاقاتهم الناضجة أو الواضحة يرفع من أهمية ومدلولات القيام بتحليل الأحداث المتعلقة بالحياة اليومية، وإن أي طرح يتناول هذه العلاقات يجب أن يكون من جوانبها التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والجغرافية والديموغرافية والسياسية والعائلية جميعها. فقد احتلت القضايا الفلسطينية وما تزال قسطاً مهماً وقدراً كبيراً وجزءاً مهماً من الأجندة الأردنية اليومية، لا بل إنها تعد قضية أردنية دائمة وجزءاً مهماً من المناقشات والأحاديث اليومية للشعب الأردني.
عوداً على بدء بالحديث عن توجهات السياسة الأردنية، إلا إنني لا أرى خطوة الحكومة الأردنية بإغلاق مقار (الإخوان المسلمون) بهذه الكيفية كانت خطوة غير حكيمة، أو فلنقل غير مدروسة بشكل تام، وبعيدة عن التوجه السياسي الدائم للدولة الاردنية في الاعتدال، والتوازن، والوسطية. وبخاصة أن هناك قضايا منظورة أمام القضاء الأردني، وكان من الأولى انتظار القرار الفصل من القضاء الأردني، أو انتظار صناديق الاقتراع التي بدأت تطيح بهم، فقد خفت بريقهم، وخبت صورتهم المشرقة في أذهان الناس نتيجة لهذا التشاحن والتطاحن، ولدينا انتخابات نقابة المعلمين أنموذجاً، فهي نتيجة خيبة أمل حلت بالشارع من تصرفات طرفي الإنشقاق غير المقبولة، وتراشقهم عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام الأخرى، وتداول شؤونهم الخاصة على المواقع العامة، بمستوى هابط جداً من الحوار، حيث ينحدر كثير من منسوبيهم إلى مستويات الحضيض في النقاش، ويبين أنه ليس لهم أدنى معرفة بالحوار، ولا باختلاف وجهات النظر، ينهالون بالشتم واللعن على قيادات الطرف الآخر، وهي طريقة ليست إسلامية، ولا أخلاقية ولا حزبية، ولا سياسية، وإنني أكرهها كراهة تحريمية.
خلاصة القول إننا نرى القضية الفلسطينية تحدد مسار الحياة السياسية الأردنية إلى حدٍّ كبير، نظراً للتقارب الجغرافي والتمازج العائلي الكبير والعلاقات العائلية والمصاهرة المركبة والمعقدة التي تربط الشعبين الأردني والفلسطيني. وبأنه لن يكون هناك أحزاب سياسية حقيقية فاعلة في الأردن حتى تُحلَ القضية الفلسطينية بشكل دائم، وتصبح هناك دولة فلسطينية كاملة السيادة، أو تعود لما كانت عليه من وحدة بين البلدين قبل الاحتلال، لتسمح للفلسطينيين بإنشاء وتكوين أحزابهم السياسية الخاصة بهم في بلدهم فلسطين أو على الأقل الانضمام بشكل تام إلى الأحزاب السياسية في الأردن.
* أستاذ مشارك في الصحافة والنشر الإلكتروني