لو أنك أجلست الموت على أريكة، ودعوته إلى فنجان قهوة، وحاولت التفاهم معه على أن يكون أقل رعونة.. هل كان سيصغي إلى استغاثاتك؟ ولو دعوته أن يتريث قليلا، فلا ينشب أظفاره الفولاذية في لحم الأحبة، فيفتّت أحلامهم..هل يستجيب؟
هل يقبل أن يعقد هدنة فيأخذ غفوة عابرة، علّ رغباته الماكرة تخمد؟
هل ستفترّ عن قلبه المعدني لفتة رحمة؟
هل سيؤجل مواعيده الصارمات فيرأف، ولو لهنيهة، بالأكباد؟
كلا.. كلا! لن يربأ بشيء، ولن يمهل ضحاياه أن تقول: وداعا، أو أن تحتفل بأولى تباشير الفجر.
يذهب الموت بكل أثقاله الدموية نحو انتزاع آخر نسغ في العظام، وتجفيف آخر دمعة في المآقي وإحياء اللوعة والتمزق والأسى.
وإمعانا في العذاب، سيذوب المرارة في العروق حتى آخر تجرّع، وسيخرج، بلا ريب، من مجزرته الدموية وقد أدى المهمة باقتدار عزّ نظيره.
وقبل أن تبرد دماء الضحايا، سيخرج من يسبغ على الموت الحكمة، وينثر على أظلافه ورد الرضا، ويسيجه بمنظومة التسليم الجارية على الألسن جري الرذاذ والزبد.
أسائل الموت، بعد أن حزم أمتعته باتجاه دم جديد..أسائله بعينين فياضتين بالقنوط: بماذا نجيب "عمر" ذا الخمسة أعوام حينما يبحث في المساء عن أبويه "سائد" و"آيات" اللذين مرت عشرة أيام ولم يشاهد طيفهما ولم يتحسس دفء حضنيهما؟
بماذا نخبره حينما يسأل عن شقيقه الأصغر "زيد" ذي السنتين الذي قضى في حضن أمه، أو عن شقيقه "سيف" الذي صار في ذمة الموت السريري؟!
أرشدنا أيها الموت واجعل حكمتك تتدفق فوق ألسنتنا الخرساء وأفئدتنا المعتمة.
دلنا يا موت ماذا نفعل، وكيف نتصرف، وفي أي اتجاه نسير كي تكون راضيا مرضيا، مبتهجا، مظفرا، ومزهوا؟
بماذا أواسي "سهاد" وقد فرغت خزانة الأدوية من "الفاليوم". وكيف أكفكف دموعها المنهمرات في لجة الليل حينما تصحو وتبحث عن أخيها هاذية: "يا حبيبي يا سائد"؟
ومن يوقف البكاء المخنوق في حنجرة العم "هشام"؟
ولو تجمعت كل مياه المحيطات لأحرقتها لوعة الخالة "فريال" وأنينها البركاني. كم عليك يا خالة أن تتجرعي الصبر وأنت تتذكرين المرات التي ودعك فيها "سائد" قبل أن يستقل حافلة الموت في الهزيع الأخير من الليل.
ذهب الذين نحبهم، فانطفأ سراج القلب، وانتصر الألم. فابتهج يا موت ولتكتحل عيناك باللحم المتفحم والأضلاع المهشمة. والصيحات المخنوقة. ابتهج يا موت!
m.barhouma@alghad.jo
الغد.