سألني أحد الأشخاص فيما مضى من سنين: ماذا تعني الشفافية؟، وكنت أعرف أنه يريد إجابة واضحة دقيقة لا إجابة على النمط الرسمي، فأجبته بمثال بسيط: هل ترى كأس الماء الذي أمامنا على الطاولة، هل تستطيع أن ترى وتراقب وتتأكد من أن محتواه هو الماء النقي؟ قال نعم، حسنا ماذا لو كانت هذه الكأس عبوة معدنية، هل كنت للتأكد من أن محتواها هو ماء نظيف،أم من الممكن أن يحتوي على شوائب سامة أو قاتلة ؟ قال قطعا لن أعرف، قلت له :هذا باختصار مبدأ الشفافية، عندما تكون خارطة الأعمال والأنظمة والقوانين، شفافة كالزجاج تستطيع حينها أن تعرف أين وقع الخطأ فتعالجه، والأهم أن مراقبته تكون أسهل.
العديد من العامة لم يكن يسمع أو يعرف ما هي «بنما» أو أين تقع، ولعلني شخصيا بدأت معرفتها ومتابعة اسمها بعد الغزو الأمريكي لها عام 1989 حينما قرر جورج بوش غزو بنما للإطاحة بالرئيس «مانويل أورييغا» بدعوى التخلص من الحكم العسكري الدكتاتوري فيها، ولكن الأمور كانت أكثر تعقيدا من شفافية الحرب السريعة، فقناة بنما هي صناعة أمريكية، وكانت ملكا للولايات المتحدة قبل أن تتنازل عنها للحكومة البنمية، فيما لا يزال التعاون الأمني والاستخباري بين واشنطن وبنما العاصمة عالي المستوى الى درجة «الولوج السري».
بنما اليوم وعلى مدار أسبوع مضى يتصدر أسمها الأخبار العالمية، في انتظار الوجبات القادمة من «أوراق بنما» الاحد عشر مليونا، في شهية مفرطة لوسائل الإعلام العالمية للحصول على أسماء جديدة من الشخصيات المشهورة، رؤساء وحكام دول ووزاريين ومسؤولين حاليين وسابقين، علّ هناك من «خبطات» كبيرة لفضح مستور التهرب المالي عبر العالم، ولكن لم يتأكد أحد اليوم من الجهة الحقيقية التي تقف خلف ذلك البركان، الذي لفظ حممه نحو زعماء دول أهمهم فلاديمير بوتين عن طريق مقربين منه وديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا، فمن يستطيع الولوج الى تلك القلعة المحصنّة لفضح المستور؟
إدوارد سنودن، المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأمريكية والذي سرب تفاصيل برنامج التجسس «بريسم» الى الصحافة الغربية ، غرد عبر حسابه على تويتر بالقول « العاصفة قادمة» قبل أن يحث الإنجليز على الإطاحة برئيس الوزراء ديفيد كاميرون، الذي اعترف أنه كان مستفيدا من شركة والده المفضوحة، ولكنه شدد على أنه سبق وأن باع حصته بمبلغ 36 الف دولار فقط قبل الترشح للانتخابات، ولكن من الممكن أن سنودن يمتلك معلومات عن فضيحة بنما بأكثر مما خرج حتى الآن، فجبل الجليد لم يطل برأسه كله حتى الآن.
ماذا عن عالمنا العربي، هل هناك قليل من الشفافية؟ بالطبع ليس الكثير، حتى ما عرفناه ولمسناه من قبل سياسيا واقتصاديا بات لوحة كبيرة جدا من الكلمات المتقاطعة غير المتصلة، حتى بتنا لا نفهم شيئا مما يحدث، ولن نفهم مستقبلا حتى لو كانت اللوحة الزجاجية التي يُحفظ خلفها الوثائق والوقوعات والأوامر والمراسلات نظيفة جدا، لن يفهمها أحد، لأن لغتها مشفرة.
أهم ما فضحته «بنما غيت» هو معرفة كيف تفقد الدول الصغيرة ذات الإقتصاد المتواضع الكثير من الملايين والمليارات لحساب أشخاص غير نزيهين أو على الأقل غير وطنيين، فبنما التي تضاعف الناتج القومي فيها وتحسنت أوضاعها الاقتصادية في ظل الركود، وهي تمتلك أكبر أسطول للسفن التجارية التي تحمل علمها، تمكنت من الاستفادة عبر الأرصدة الهاربة من الدول المنكوبة ببعض شخصياتها، فيما لا تزال هذه الدول تتحدث عن الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد، والعائلات والشباب ضائعون في التيه الاقتصادي والسياسي، بينما عجائزها يحتكرون الثروات، فللنتظر العاصفة. Royal430@hotmail.com
الرأي