العودة من وراء سور المقبرة! (الى عمان حبيبة وأحبة)
26-07-2008 03:00 AM
أنا طفل في السابعة والستين من العمر، وفتى في السابعة والستين من العمر، وكهل في السابعة والستين من العمر، ورجل هرم في السابعة والستين من العمر، وأنا الان طفل آخر وفتى اخر وكهل اخر، وهرم آخر، وعاشق آخر.. فأي لغة تسعفني كي أكتب ما أود ان اقوله وما يجب ان اقوله، وأي لغة قادرة على حمل ما في قلبي الى شفتي، والى اصابعي والى اقلامي واوراقي وانا لم أزل عاجزا عن الحبو، وعاجزا عن المشي، وعاجزا عن الركض، وعاجزا عن النهوض من فوق مقعد على شرفة منزل يطل على حبيبتي عمان، فلا أكاد اقترب من جدائلها، ولا تكاد تقترب من يديّ، كي اشدها الى صدري وأهتف لها: آه ايتها المدينة الجميلة الطاهرة الوقورة الحنونة والوحيدة التي لا سواها في هذه الصحراء التي اسمها العالم.
أنا طفل من مواليد التاسع والعشرين من حزيران هذا العام، أدخلت غرفة العمليات في مستشفى كرومويل، ووقف الفريق الطبي برئاسة البروفسور (محمد بيلا) حول جسدي الساكن في انتظار ان ينتهي فريق طبي اخر في غرفة عمليات مجاورة برئاسة البروفسور نايجل هيتون من اقتطاع 649 غراما من كبد ابن اخي (عبدالله) وحملها الى حيث ينتظر الفريق الذي سيقوم باستئصال كامل كبدي المهترىء وزرع هذا الكبد الجديد لي. عملية (عبدالله) لم تستغرق اكثر من ساعتين ودقائق اخرى، تم بعدها نقله الى غرفة العناية الحثيثة ليقضي ليلة واحدة فيها ينقل بعدها الى الغرفة 148 في الطابق الاول من المستشفى أما زراعة الكبد الجديد لي فقد استغرقت اكثر من سبع ساعات نقلت بعد نجاحها الى العناية الحثيثة لاقضي فيها اربع ليال نقلت بعدها الى الغرفة رقم 144.
كانت ابنتاي معي، وكانت مكالمات هاتفية ورسائل خلوية تصل الى ابنتي التي تركت معها هاتفي وطلبت منها ان تبلغ عددا من الزملاء والزميلات والاصدقاء والصديقات بنجاح العملية اذا ما نجحت، أما اذا لم تنجح وبدأت رحلتي الاخيرة فان الخبر سيركض وحده على قدميه! قال لي الاطباء ان كبدي بدأ العمل فور الانتهاء من العملية وان الامور لا يمكن ان تكون افضل مما كانت عليه، وبت هدفا لزيارات لا تتوقف من الممرضات والممرضين الذين يقيسون ضغطي ودرجة حرارتي ونسبة السكر في دمي، حتى صعب علي أن أتذكر عدد المرات التي كانوا يستهدفونني بغاراتهم الانسانية والحنونة والمملوءة بابتساماتهم الدائمة، وكان الاطباء يتابعون حالتي كل يوم ويؤكدون لي أن عمليتي كانت مدهشة بنجاحها وبكفاءة كبدي الجديد، وبدأت بتناول الطعام بعد وصولي الى الغرفة رقم 144و المشي في ممرات المستشفى بصحبة الممرضة الصينية الاصل القادمة من استراليا للعمل في لندن واسمها (إيفا) التي لم اقابل في حياتي انسانا يتحدث بالسرعة التي كانت تتحدث بها، ثم بعد اسبوع طلبوا من (عبدالله) ان يغادر المستشفى، وبعد اسبوعين طلبوا مني ذلك، وقضى المتبرع الرائع اسبوعا غادر بعده الى الاردن بنصف كبد على ان يستعيد كبده حجمه الطبيعي خلال فترة لا تتجاوز الستة اسابيع، اما انا فاقيم في شقة تبعد عن المستشفى عشرين مترا، حيث اراجع الدكتور (ديفلن) رئيس قسم الكبد بعد اجراء فحص دم، ومتابعة عمل الادوية التي أتناولها لاقناع جسدي بقبول الضيف الجديد الذي حل في داخله، وهي الأدوية التي سأظل اتناولها بقية العمر.
كان اول ما طلبته صحيفة الرأي وما تم نشره في موقع عمون الالكتروني، قرأت اولاً الرسالة التي كتبتها لجلالة الملك قبل ساعات من ادخالي غرفة العمليات، احتجت الى اكثر من نصف ساعة كي اتم قراءة الرسالة، اذ كان الدمع يحجب عني الكلمات والسطور، ثم يذهب بعيداً في القلب، انتابني احساس عميق وواسع من الفرح والطمأنينة، وشعرت انني اعود من وراء اسوار مقبرة كان يمكن ان اقيم فيها لولا رحمة الله ورعاية جلالة سيدنا، وشعرت ايضاً ولأول مرة انني ارتكبت خيانة بشعة خلال السنوات الاخيرة اذ بقيت محتفظاً بأسرار كثيرة، وجميلة، وان عليّ الآن ان اجلس واكتب قصصاً وحكايات وذكريات وصوراً عن الاعوام الثلاثة التي قضيتها في بيت الهاشميين بيت كل الاردنيين بل بيت كل العرب.
هذه المقالة الاولى بعد نجاح العملية مجرد محاولة صادقة لتوجيه الشكر العميق لكل الذين احاطوني بعواطفهم الصادقة واهتمامهم ومتابعتهم لوضعي الصحي قبل اجراء العملية وبعد اجرائها، وقد اكتشفت انه بالقدر الذي تحترم فيه نفسك يكون احترام الآخرين لك، وانك اذا حرصت على ان تقول كلمتك بشجاعة، وحرصت على ان تلتزم الصدق فيما تقول وفيما تكتب، حرص الآخرون ؟ الذين تعرفهم والذين لا تعرفهم ؟ على ان يحلوك في قلوبهم وعقولهم، وعلى صعوبة ان اكتب تفاصيل الفترة التي كنت خلالها في انتظار متبرع يمنحني قطعة من كبده، الا انني سأسجل هنا نماذج لا يعلم الآخرون كيف تلقيت كرمها، وكيف كان كل نموذج منها يمنح كبدي المتعب فرصة جديدة للصمود.
مواطن في الثمانين من عمره، امد الله في هذا العمر، اتصل بي ونقل لي رغبته في التبرع لي بجزء من كبده، كان صوته قوياً وعميقاً كأنه صوت رجل في العشرين من عمره، صمت لحظة ثم قلت له: لا يبدو انك في الثمانين، وانني عاجز عن شكره واكدت له ان الاطباء اشاروا الى حاجتي لمتبرع شاب، بدا صوت الرجل مختلفاً وقال انه شاب احسن من أي شاب ثم تبادلنا حديثاً مطولاً انهاه الرجل بالتأكيد لي على انه يحتفظ بكل مقالاتي التي سبق لي نشرها وانه اذا كنت في حاجة لمقالة ليست في ارشيفي فإنه على استعداد لتزويدي بها!.
سيدة فاضلة اتصلت بي، في البداية لم تقدم لي نفسها، ولم اسألها، لكنها قالت لي انها اتفقت وزوجها على التبرع لي بقطعة من كبدها، وأنها بصحة جيدة وفي الاربعينات من العمر، قدمت لها كل الشكر ووعدتها بالاتصال بها، وفي اليوم التالي اتصلت وقدمت لي نفسها واضافت معلومات اخرى عنها وعن زوجها وابنيها الشابين، وظلت تتابع اوضاعي الصحية قبل اجراء العملية وبعدها، وعندما تلقت من ابنتي خبر نجاح العملية واصلت ارسال رسائلها الخلوية للمزيد من الاطمئنان.
زميلة لم يمض على لقائي بها سوى بضعة شهور، تشعر وهي تجلس امامك انها طفلة في الخامسة من العمر، يزدحم وجهها بالبراءة والحياء والهدوء، قدمت لي قرارها بالتبرع لي، وان دمها مطابق لدمي، وان اسرتها وافقتها على رغبتها، وعدتها بما لم اعد اذكر من الكلمات وغادرت المكتب ليخبرني زميل في اليوم التالي انها انخرطت في البكاء والتساؤل (لماذا يرفض عمو خالد تبرعي)، مع انني لم ارفض ولم اقبل فقد كنت في حيرة من اتخاذ أي قرار..
هناك اكثر من عشرة نماذج مثل هؤلاء الثلاثة، يحتاج كل واحد منهم الى حديث دافئ وطويل لم أكن اعرف احدا منهم ولا اعرفهم حتى الان، لكنهم جميعا كانوا يتحدثون عما اكتب وهم يقدمون عرضهم النبيل، وهو ما يجعلني اشعر بالرضا عن نفسي على صعوبة ان ينعم المرء بمثل هذا الشعور، ولا بد ان أُشير هنا الى امر طريف فقد تلقيت من مواطن عربي يعمل في الاردن استعداده للتبرع لي بقطعة من كبده مقابل عشرة الاف دينار كنت قد تسلمت رسالته ومزاجي موزون فكتبت له رسالة جوابية قلت له فيها ان هذا ليس تبرعا وانما عملية بيع وشراء، ولان الامر كذلك فان في وسعي ان اشتري اكبر (معلاق) في البلد بخمسة دنانير ومعه قلب ورئتان يمكن طبخها بالبصل والسمن البلدي وتناولها كأحسن وجبة.
وبعد اسمحوا لي ان اقدم شكري وامتناني لكل الاحباء والاصدقاء، ومن اعرف ومن لا اعرف في بلدي وخارجه على ما اعطوني من الامل والفرح والطمأنينة، ومن واجبي ان أتقدم بالشكر كله والامتنان كله للمؤسسة الصحفية الاردنية ممثلة بمجلس ادارتها رئيسا واعضاء وبالزميلين مدير عام المؤسسة ورئيس تحرير الرأي على دعمهم المعنوي والمادي لزميل لهم يجلس واياهم في خندق الكلمة الصادقة منذ اكثر من ثلاثين عاما، وارجو ان يتقبل مني الشكر معالي الاخ الدكتور باسم عوض الله رئيس الديوان الملكي الهاشمي ومعالي الاخ امجد العضايلة مدير الصحافة والاعلام على تذليلهما لكل العقبات امام سفري واجراء العملية، وكل شكري لسيادة الشريفة ثريا التي اظهرت نحوي كل ما كنت احتاج اليه من عواطفها النبيلة وانسانيتها الرائعة، اما زملائي في الرأي وفي مواقع صحفية اخرى وفي موقع عمون فيصعب علي ان اجد ما اقوله لهم وقد اشعروني كم كنت في حاجة الى محبتهم واهتمامهم وكم كانوا كرماء في تقديم هذه المحبة والاهتمام.
عن الراي.