أيها القادري .. لقد بكتك منابر السلط
ابراهيم الزعبي
08-04-2016 07:27 PM
لقد رحل "بركة السلط".. هكذا بادرني أحد أصدقائه.
قال لي: يبدو أن المنية التي أنشبت أظافرها أمس كانت هي أكثر شوقاً للكيلاني القادري... وكأنما البساطة التي عُرف بها شيخنا أمين، في مأكله ومسكنه وحركته وسكونه، وتعامله مع تلاميذه، كانت مرادفة للهدوء الذي رحل به وهو يغادر دنيانا الفانية.
لقد بكى الجميع شيخنا الراحل... كبار السلط وصغارها... مسلميها ومسيحييها... فقد رحل إمام مساجدها ومفتيها ومرشدها وفقيهها... رحل رجل بقامة أمة، وبقامة التاريخ، سيفقده الجميع دون شك بعد أن يتدبروا ما كان يقوله، وفي الحقيقة بعد أن يتدبروا بين سطور ما كان يجاهر به.
كان الشيخ أمين مربيا فاضلا.. تتتلمذ على يديه معظم أبناء مدينته وشخصياتها.. لقد كان خطابه التربوي مقترناً بالخطاب الديني والاجتماعي،ولشيخنا تاريخ مشرف في العمل الاجتماعي، وإصلاح ذات البين.. ولا نجد جاهة تسعى إلى مصاهرة أو لعقد قران أو طلب معونة لمشروع خيّر، وفيه مصلحة اجتماعية أو إنسانية إلا ويكون شيخنا على رأسها.
وإذا كان وجه الشيخ من كل زاوية تنظر إليه يعطيك معنى مختلفاً، فما بالك بعلمه وأفكاره.. فقد رحل الشيخ بعد أن سلم وصيته الاخيرة لمن يأتمنهم من ابناء مدينته، وصية عمادها المحبة والسلام والتعايش بين ابناء السلط بكافة طوائفهم ومشاربهم.
حدثني أحد من لازموه: لقد كانت صلاة الشيخ لوحةً طبيعية نستمتع بها، ونعجب كيف يجد هذا الرجل كل هذه المتعة في الصلاة، ونحن نكابد الانتظام ومجاهدة السهو والشرود، والسعي للسكينة والخشوع والتذوق. وكنا نشعر دائماً بفارق كبير بين صلواتنا وصلواته، وإيم الله إنا مازلنا نمني النفس بصلاة كتلك التي وهبها الله للراحل المبارك، ولكنه كان مشروع محبة وسلام ننتظر أن يمن به علينا واهب النعم.
لم يكن الرجل يحدث الناس في المسجد كثيراً ، وإذا تحدث لا تكاد تسمعه الا بمشقة من فرط انخفاض صوته، شيمته الصمت والإطراق، والحياء، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جم الأدب .... وهو ربما من أكبر المصلين سناً، لا تكاد تستبين من كلامه الا القليل من شدة خفوت صوته، ولكن مثل هؤلاء لا يحتاجون إلى كلام ليبلغوا رسالتهم إلى الناس ،و لينتفعوا بها، تعلمنا منه عن الصلاة ما لم نجده في كتب أو دروس ، أو خطب الفصحاء ، وتعلمنا الدرس الأهم ، القدوة الحسنة والقبول الرباني، وقبل ذلك الإخلاص لله هي أبلغ من كل لسان وبيان ، مع أن الرجل كان من أهل البيان والعلم ، فاذا كان أحد السلف نعى أحد العارفين قائلاً : (رحم الله إمامنا فقد كان يحسن الوضوء) فإننا نقول: رحم الله شيخنا الكيلاني القادري فقد كان يحسن الصلاة.
نقف اليوم في محراب الحزن، وأهل دمعة حرى، حزنًا على خطيب منابر السلط، الرجل الذي أعطى السلط عمره وحبه، حيث سكنت وجدانه، وترعرعت في قلبه،ولم يبخل عليها من جوده وكرمه، فكتب اسمها على جبينه، وكتبت اسمه على اغصان زيتونها وبساتينها الخضراء.
اليوم نفتقدك أيها الشيخ الجليل... تفتقدك البلقاء ومنابرها.. سيشتاق إليك محراب مسجدها الجامع. وأحجار السلط القديمة... ومجالس العلم والمعرفة وكل الاردنيين, ستبقى في ذاكرتنا رمز الاسلام الصحيح والمعتدل في العالم العربي والاسلامي.
وداعاً يا شيخنا الجليل.... وداعا يا فارس العلم الذي هوى صعودًا، ايها الرجل الكيلاني القادري القرشي العربي. ... وداعا أيها الزاهد العابد الذي ترسّخ في قلبه حب الآخرة، فزهد بما في أيدي الناس فأحبه الناس.
الحمد لله الذي جعل من نصيبنا شيخا شريفا شفوقا شامخا، أكرمه الله بكرامة عظيمة، فانطبقت عليه الآية الكريمة ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ صدق الله العظيم.
Ibrahim.z1965@gmail.com