ظواهر التوحّش والتحضّرد.رحيل الغرايبة
08-04-2016 04:03 AM
من أكثر الأمور التي تدعو للفزع وتثير الرعب في أوصال أهل الرأي والتدبير تمدد ظواهر التوحش على حساب مظاهر التحضر والرقي في مجتمعنا، ودلائل ذلك تزداد يوماً بعد يوم، ولا تتناقص، ويتمثل ذلك بمنظومة السلوك الجمعي، وأنماط التعامل الاجتماعي الواسع خاصة في أوساط الشباب وطلاب المدارس والجامعات، رغم التقدم المادي الباهر الذي تبدو مظاهره السطحية في أغلب مجالات الحياة. عندما كنا طلاباً في تلك القرى المنسية التي لا تعرف من مظاهر الحضارة المادية شيئاً، فلا ماء ولا كهرباء ولا تلفونات أرضية ولا خلوية، وبيوتا من طين، وشوارع ترابية ومدارس ذات صفوف مجمعة، بلا مكتبات ولا آلات تصوير، ولكن المجتمع المحلي كان يبدي أعلى درجات الاحترام والتقدير للمعلم والاحتفاء بمقدمه عندما يصل من المختار ومن كل سكان القرية حتى لا يشعر بالغربة، أما الطلاب فكانوا لا يقابلونه في الطريق ولا يجرؤون على مواجهته حياءً وخجلاً زائداً عن الحدود، وكنا نلحظ التوقير الكبير واحترام أهل العلم والدين وإكرام الضيف وتقديم العون بكل بساطة وعفوية بعيداً عن الإعلام والصحافة ونقل الصور والقيام بمظاهر» العونة « والتكافل الاجتماعي بلا ضجيج أو مباهاة، والخضوع للحق بلا شرطة ولا محاكم. اليوم نحن نعيش حياة مليئة بالأضواء والشوارع الواسعة والسيارات الفارهة، والمدارس الكثيرة الحكومية والخاصة ذات الأقساط المرتفعة، والحافلات البرتقالية التي تقل الطلاب من أمام المنزل وتعيدهم إلى أبواب منازلهم، ومكتبات ومحلات ألعاب ومصاريف يومية عالية كانت تعادل مصروف عام بأكمله، وجامعات عامة وخاصة، ودراسات عليا، ودراسات موازية وبرامج دولية، وتخصصات فرعية لا عدّ لها ولا حصر، وأساتذة وأكاديميين متخرجين من كل جامعات العالم، ويحملون أعلى الرتب وأرفع الأوسمة، وقاعات ومدرجات وألواح جميلة، واتحادات طلبة واعتصامات وخطابات، وصحفا ومجلات ومواقع اخبارية وانترنت، وصفحات للتواصل الاجتماعي.. ومع كل ذلك فإن لغة الخطاب في انحدار، وقيم الاحترام والتقدير للمعلم تهوي نحو القاع، والثقافة العامة تتعرض للاعتداء والتهتك، وساعات المطالعة والتثقيف الذاتي تكاد تكون منعدمة، وكثرة السيارات وأنواعها وأشكالها (وموديلاتها) وتعدد مصادر الطاقة فيها بين «الهايبرد» والسيارات الكهربائية لا يتناسب مع الاستخدام الحضاري في المسير والتوقف، وتلحظ مظاهر الاستعلاء والاستقواء والتنمر، والتمرد على القانون والنظام العام وتحطيم كل قواعد المنطق وما تعارف عليه الناس. الجامعات أصبحت مسرحاً للمشاجرات، وسحب «الأمواس» والمسدسات، والانتخابات تقوم على أسس عشائرية وجهوية وانتماءات ضيقة، حتى الانتماءات الدينية والأيدولوجية أصبحت نوعاً من الاستثمار واستعمال الأردية والغطاءات الشكلية التي أصبحت تبتعد عن العمق الحضاري الذي يجمع ولا يفرق ويوحد ولا يشتت. نصف قرن من ممارسة العمل الحزبي والنقابي، لم يتم تطوير حالة مجتمعية متحضرة، بل ارتكست إلى الخلف في التجمع والتحشيد على المصالح والمكتسبات الفئوية، وتم تحويل أطر العمل العام إلى أدوات تفرق المجتمع وتمزق الأواصر بين الأفراد والمكونات، ولم ننتقل إلى أفق الإحساس الجماعي الحقيقي بالكارثة والمأزق الذي يعيشه المجتمع؛ والذي يتمثل بالمأزق الأخلاقي القيمي والسلوك الجمعي. ليس هناك أمر أشد إثارة للفزع والرعب في أوصال المجتمع من انهيار منظومة القيم الحضارية لدى الأجيال القادمة، وتدهور معاني الرقي في السلوك والتعامل، فعندما ترى اتساع دائرة التمرد على القواعد الأخلاقية العامة، والخروج على منظومة الأعراف الجمعية، واتساع ظاهرة الاستهتار بكل المسلمات والبديهيات، فكل ذلك يمثل نذر الخطر الداهم والشؤم القاتل. يجب أن نصل إلى درجة اليقين بالإجماع بأن ما تتعرض له المجتمعات العربية من اقتتال وتدمير وانهيار عام، ما هو إلّا ثمرة من ثمرات تدمير الإنسان العربي عقلاً و قيماً وأخلاقاً وتحضراً وسلوكاً جمعياً، وفي مقابل ذلك لا مجال لإصلاح الخلل ووقف الانهيار الكبير إلاّ من خلال إعادة بناء الإنسان العربي عقلاً ووجداناً، وإصلاح مناهجنا التعليمية والتربوية، وترميم منظومة القيم السلوكية وتمتين النسيج الوطني وتوثيق العلاقات بين أفراد المجتمع ومكوناته على أسس سليمة وقواعد اجتماعية راسخة.
|
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * |
بقي لك 500 حرف
|
رمز التحقق : |
تحديث الرمز
أكتب الرمز :
|
برمجة واستضافة