لا تكن ضعيفا .. حارس سيلايجيتيش
اسعد العزوني
02-04-2016 07:13 PM
خلال مسيرتي الصحافية التي تبلغ أربعين عاما ، وإتسمت بالمعاناة والتحدي ، قابلت نحو ألف من كبار المسؤولين العرب ، ولم أشعر أن واحدا منهم أضاف لرصيدي المعرفي شيئا ، سوى خمسة منهم هم الراحل الملك الحسين الذي بهرني بدبلوماسيته وبراعته في مخاطبة الآخر ، والراحل ياسر عرفات البارع في تقدير الطرف الآخر ، والراحل صدام حسين الصارم ، والمشير سوار الذهب لزهده وأدبه الجم .
وأستطيع الآن أن أضيف البعد الإسلامي ، من خلال إضافة مسؤول رفيع إسلامي هو الرئيس البوسني السابق حارس سيليجيتيش ، ذلك العلامة ليس في السياسة فقط ، بل في كافة العلوم من جغرافيا وتاريخ وأدب وفلسفة ، وفن التحليل السياسي القائم على النظرية العلمية ، وليس ضرب الكلمات في كافة الإتجاهات.
إلتقيت بهذا الرجل خلال محاضرة نظمها منتدي الفكر العربي ، وأبدع أيما إبداع في طرح افكاره ، ونجح في إيصال رسائله بإمتياز ، وكان بارعا في كل حركاته وسكناته ، وهذه الميزة لا تتوفر إلا في الشخص الذي تعب على نفسه ، وجددها بإستمرار من خلال القراءة والكتابة والفهم ، وقد إستحق التدرج بالمناصب حتى وصل رئيسا لبلاده ، لأن البوسنة والهرسك تستحق رجلا مثله.
بعد المحاضرة التي أنهاها وهو بكامل قيافته الحيوية - لأنه لم يجهد نفسه عناء الإحراج من قبل الحضور خشية ألا يكون قد قدم أفضل ما عنده ، ولأنه قدم محاضرة تستحق أن يطلق عليها أم المحاضرات ، بسبب إكتمالها من حيث الموضوع والطرح وطريقة التقديم وتفاعل الحضور الإيجابي – تحدثت معه وكان مثالا يحتذى في إحترام الآخر ، وسألته عدة أسئلة خاصة وقدمت له مجموعة من كتبي ، وقرأت في محياه فرحة لتلقيه هدية عبارة عن مجموعة من الكتب .
إتسم حديث الرئيس سيليجيتيش بالعقلانية المبنية على علم المنطق ، والمدعمة بالحقائق الدامغة ، وظهر وهو يسير في خط مستقيم غير متعرج ، بمعنى أن الرجل قد حفظ خارطة طريقه ، وجاء إلى الأردن وهو يعرف ما سيقول ، ويعلم مسبقا أنه سيتحدث أمام النخبة ، ولذلك كان خطابه متميزا من حيث الأسلوب والمضمون وحتى أسلوب الحديث ، إذ لم ألحظ عليه أي حالة إرتباك .
تحدث الرجل عن تاريخ بلاده ، وأجزل الوصف ، وإتهم المجتمع الدولي بخيانة المثل والقيم والتعددية ، وخص بالذكر أوروبا الذي قال عنها أنها أرادت إبادة المسلمين في البوسنة ، ولهذا لم يتدخلوا لصالحها وردع صربيا ، التي نفذت عدوانا صارخا على شعب البوسنة والهرسك ، وقاموا أيضا بحظر السلاح عن البوسنة ، لكنه عدل المسار بفخر ، أن صمود شعبه أبطل النوايا الأوروبية وصد العدوان الصربي ، وإنتهى العدوان دون أن تخسر البوسنة بوصة واحدة من أراضيها .
كان حديث الرجل في هذا الجانب غير مرتجف ، ولم تشوبه شائبة الإرتباك والخوف من القوى التي هاجمها بشفافية ، أن تتخذ منه موقفا معاديا ، وربما تصدر أمرا بمنعه من دخول أراضيها ، كما يفعل المسؤولون العرب الذين يرتجفون من سؤال صحافي محرج للضيف الأجنبي ، فهذا هو الرجل الذي إحتل المنصب رقم واحد في بلاده يوما ، ومع ذلك تسلح بحب وطنه ، ووصّف المواقف بالصورة الصحيحة ، ولم يدر بخلده ردة فعل أحد .
إتسم تحليل الرئيس سيلايجيتيش بالنبوءة التي نقرأ إرهاصاتها اليوم ، ومنها أن تحالفا غربيا – إسلاميا سيظهر في آسيا ، وأن أمريكا ستتقدم أوروبا التي ستصل متاخرة وتصبح في الظل ، كما تحدث عن حرب عالمية ثالثة ستنفجر لا حقا.
صحيح أنه مسلم أوروربي ، وهذا لم يمنعه من متابعة في مجريات الأمور في المشرق العربي ، وإتضح أنه على علم بالجزئيات الدقيقة ، ولديه المقدرة على ربط ما جرى في بلاده ، مع ما يجري حاليا في الشرق وخاصة في العراق وسوريا ، وقد حذر السوريين والعراقيين معا من مغبة القبول بالتقسيم ، لأنه سيجر مصائب وحروبا صغيرة إلى الأبد.
كحكيم فتح الله عليه ، ظهر الرئيس سيلايجيتيش ، عندما تحدث عن واقع العالم المتحضر وغير المتحضر ، وأسهب في الحديث عن الأزمة العالمية ووضع لها حلولا ، وهي السير على نهج التسامح العميق والتعددية بمفهومها الصحيح وهو العيش معا ، وليس إلى جانب بعض كما هو الحال في أوروبا ، كما دعا إلى الحوار الجاد الموضوعي الهادف ، وأن نتعايش مع الزمن بشكل صحيح ، وضبط خطواتنا لتتواءم مع حركة الزمن ، وأن نقبل الإختلاف والنقد والرأي الآخر، لأن ذلك سيساعدنا على تصحيح مسارنا ، فنحن كما قال في سفينة واحدة ، وهذا برأيي أصدق تعبير عن الحضارة الإسلامية.
كان الرئيس سيلايجيتش صريحا شفاف عندما أعلن أنه علماني ، لكنه لم يفك إرتباطه بالحضارة الإسلامية ، ولم يتبرا من دينه ، ولذلك إستحق بجدارة أن يكون داعية إسلاميا فاهما لأصول دينه راقيا في فكره وطرحه ، وهو هنا يختلف عن الآخرين الذين ما إن تحدثوا بلسان اجنبي ، حتى يسارعوا في الإعلان عن تنصلهم من دينهم وتخليهم عن عقيدتهم ، وقد قال لا فض فوه أن عودة الناس اليوم إلى المنابع الأساسية للإسلام ، لا يخدم المسلمين فقط ويصحح مسارهم ، بل يخدم المسيحية واليهودية ، والتي إبتعدت كل منها عن منابعها التوحيدية الأصيلة ، وأن في هذا خلاصنا جميعا.
تحدث فخامة الرئيس سيلايجيتش عن زوايا تاريخية ، قل من يجرؤ على الحديث عنها ، وهي أن المسلمين إستقبلوا اليهود الهاربين من محاكم التفتيش في إسبانيا في القرن السادس عشر ، وأن المسلمين البوسنيين على سبيل المثال قد إستقبلوهم بحفاوة ، وفسحوا لهم المجال للعيش بين ظهرانيهم حتى ظهور النازية ، وأن الحكومة البوسنية آنذاك ، بعثت بمذكرات لحكومة النازي هتلر تدافع فيها عن يهود.
كما أوضح ، أن هناك من حاول جر الإمبراطور العثماني سليم الأول ، للإنتقام والأخذ بالثأر من إسبانيا وملكها بقتل المسيحيين ، وقد طلب فتوى من مفتي الإمبراطوية الذي أفاده أن الله سبحانه وتعالى يمنعه من ذلك ، لأن المجرم فقط هو الذي يقتل .
آخر إبداعات الرئيس سيلايجيتش نظرية أهملناها نحن في العالمين العرب والإسلامي ، وهي :"لا تكن ضعيفا " ، وقد أسهب في الشرح ، محذرا من الظهور بمظهر الضعيف لأنهم " سيأتون إلينا ويأكلوننا ويسيطروا على ثرواتنا "، تماما كما هو حاصل هذه الأيام في الوطن العربي الذي قاده ضعفه رغم إمكانياته إلى الهلاك ، وأن من إستفاد من ضعفنا لم يكفه ما فعله بنا من خلال معاهدة سايكس – بيكو ، ولذلك نراه وقد أدخلنا في مشروع أشد خطورة علينا وتنكيلا بنا ، وهو مشروع الشرق الأوسط الأمريكي الكبير وشبيهه الإسرائيلي وثيقة كيفونيم ، اللذان سيقسمان المقسم ويجزئان المجزأ.