قبل خمسة أعوام, في شمالي أيرلندا، وتحديداً بمدينة "ديري" خرج نحو ألفي إنسان، مشياً على الأقدام, في تظاهرة كبرى، في عملية تحشيد للناس في الريف، من قرية الى قرية، وصولاً الى مكان التظاهرة في بلفاست العاصمة. وفي اسكتلندا، حوصر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، من قبل آلاف المواطنين الرافضين للحرب ضد العراق، ورددوا هتافاً مختصراً، كأنه صفعة على صدغ كاذب: Not In My Name. وفي تلك الأثناء، خرجت جموع البشر الطيبين، في كل مدن الدنيا، تقول لا للعدوان على العراق. لا لقتل الشعوب، ولا لخطط نهب مقدرات الناس، تحت عناوين النصب المكشوف، مثل تعرض الولايات المتحدة للخطر العراقي!
الهبّة الشعبية، في الغرب، ضد نزعة الشر لدى الإدارة الأمريكية، كانت ولا زالت تستحق التأمل أو التوقف عندها طويلاً. إن ما فيها من مفارقات، يتجاوز المقارنة المثيرة، التي جعلت الناس من جنس المعتدين، أكثر غضباً ورفضاً للحرب، من جنس المُعتدى عليهم. بل إن هتاف: "ليس باسمي.." الذي ردده المتظاهرون في الغرب، يفتح المجال لمفارقة أخرى مثيرة للسخرية، عندما نتذكر أن بعض العرب، من المراهنين على الحرب الأمريكية في العراق، توهموا أن نوايا إدارة بوش دبليو، تأخذ مشاعرهم بعين الاعتبار، وبالتالي فإن ما تفعله، سيكون باسمهم، مثلما هو بالأصالة عن الإدارة، وعن الاحتكارات النفطية!
هتاف الأوروبيين والأمريكيين من جماهير المواطنين العاديين:Not In My Name يفرض علينا أخلاقياً، أن نردد الجملة نفسها، عندما يخرج أسامة بن لادن، أو تابعه أيمن الظواهري من خلال شريط صوتي، داعياً الى قتل مواطنين أبرياء من الغرب. لن نفلح إن لم نمتلك الشجاعة لوضع النقاط على الحروف، لكي نحمي أنفسنا من الآثار الكارثية للشطحات المجنونة، ولكي نحافظ على معسكر الأصدقاء من بني البشر. فليس باسمنا، زف بن لادن شخصيا البشرى، قبل عدة سنوات، مهنئاً بقتل مواطنين ألمان في تونس، واستراليين وغيرهم في اندونيسيا. وليس باسمنا يتم الاختطاف العبثي لعاثري الحظ من السياح الزائرين لبعض بلادنا, بهدف القتل أو المقايضة, كما يظهر بين فترة وأخرى. بل لا نعرف أية لوثة هذه، التي جعلت قتل مواطنين من دول أوروبية, اندفعت في شوارعها الجماهير كثيرا, لتندد بسياسة العدوان على فلسطين ولبنان والعراق, معلنين التضامن. وليس ضدنا يكون الاستهداف التكفيري المريض, كما وقع في عمان قبل ثلاثة أعوام, ثم تكون تلاوات البشارة الإرهابية, وعلى ذمة القاعدة نفسها, لتكون تلك القاعدة بذلك خصيمة لعموم البشر على حد سواء!
إن هبّة الناس ضد الحرب على العراق مثلا، وما تبعها من براكين غضب شعبي عالمي، بعد سنوات خمس عجاف من الحرب، يجعلنا بصدد معسكر جديد مساند للقضايا العادلة، هو معسكر الشعوب، وناشطي تظاهرات السلام والحقيقة، على امتداد العالم. أولئك الذي جعلوا من أجسادهم جدران صد وممانعة, لتكون بذلك دروعا بشرية حقيقية, تعاند الصلف الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية, وتتحدى جدار الفصل العنصري, في مسيرة بلعين الأسبوعية. فما الذي يجعل هؤلاء يأتون إلى مناطق السخونة في بلادنا, ليعلنوا أنفسهم محامين عن حقوقنا, في مرافعات ميدانية, قد يكون حكمها الدم أو المهانة, التي يدفعونها من عافيتهم وراحتهم على أرضنا!
كان بن لادن، في بدايات سعيه لتلقين البسطاء المسلمين، الناقمين على حكوماتهم، بكلام مُطلق، قد طرح نظرية "الفُسْطاطيْن"، بمعنى أن هناك معسكرين متصارعين، هما معسكر المسلمين ومعسكر غيرهم. غير أن تظاهرات غير المسلمين، التي فاقت تظاهرات المسلمين غضباً وصدقية، رفضاً لغزو بلد مسلم كالعراق، جعلتنا بصدد "فسطاط" ثالث، من شأنه فضح وإحراج المنطقين معاً، بالقدر نفسه: منطق دعاة الحرب من الإمبرياليين، في إدارة جورج دبليو بوش، ومعهم أذنابهم المنبطحين من الدول التي فقدت إرادتها، قرب أوتاد الفسطاط الكريه، ومنطق بن لادن الذي يزف بشائر القتل للمواطنين الأبرياء من فسطاط الإنسان، ويرسل التهنئة في مناسبات القتل. لكن الفسطاط الأعظم، الذي لا يظلم، ولن تلحق به الهزيمة، هو فسطاط الشعوب نصيرة القضايا العادلة، التي تصفع الظالم، حتى عندما يكون من جنسها ولونها!
*الكاتب باحث أردني في العلاقات الدولية.