قصة الإصلاح المالي في الأردن ينقصها الكثير من التوازن والاعتدال والمنطق وأكثر من ذلك الاستقلالية، ولم يكن الفريق الأميركي الذي تبنى وكتب ودافع عن مسودة مشروع قانون الضريبة إلا صورة مصغرة لطبيعة ما يجري لدينا من إصلاحات تقودها قوى خارجية.عبر ذات الذراع -وكالة الإنماء الاميركية- تتحرك شركات وكوادر غربية لترسم أدق تفاصيل حياتنا وتنظمها على النحو الذي تراه مناسبا. هذا ليس زعما بل حقيقة ومفادها أن شركة (Bearing Point) الاميركية كانت قد حظيت بعقد مع الحكومة الأردنية قبل عامين (صيف 2006) ضمن غاية تركزت في تقديم الاستشارات والخبرات في مواضيع مالية بحتة مثل إصلاح هيكل الموازنة العامة وتطوير انماط عمل الموظفين وتدريبهم في وزارة المالية وكذلك إدارة الملف الضريبي بصورة جديدة في المملكة.
العقد مع الشركة يمتد ثلاث سنوات وينتهي في صيف العام المقبل، وحظيت بموجبه الشركة بمبلغ 14 مليون دولار، وهي الشركة التي تعمل لذات الغايات -الإصلاحات الضريبية والمالية والاقتصادية- في كل من العراق وأفغانستان ومصر، وهي أيضا التي يرتفع عدد عملائها في العالم إلى 2100 عميل، على رأسهم أهم: 15 مؤسسة فيدرالية اميركية، اكبر 10 مصنعين في القطاع التكنولوجي عالميا، أعلى 10 بنوك، وأضخم 10 شركات أدوية وبيولوجيا على مستوى العالم، وتقوم على تنفيذ كل هذه المهام كوادر تتركز في الولايات المتحدة ويبلغ عددها الإجمالي 17500 موظف.
تلك الشركة حملت مسودة قانون الضريبة -قيد البحث- والتقت ممثلي غرف التجارة وغرف الصناعة والنقابات وتجار المواد الغذائية خلال الأسابيع القليلة الماضية، كان يرافقها -فهي صاحبة القانون بأفكاره وتعقيداته- مسؤولون من وزارة المالية ودائرة الضريبة، ومن تابع جانبا من نقاشات ممثلي الجسم الصناعي والتجاري المحلي من جهة والشركة وممثلي الحكومة من جهة ثانية ينتابه شعور بأن ثمة تيار يسعى لفرض إيقاع حياة وتفاصيل اقتصادية قد تناسب الخارج، لكنها حتما لا تصلح في مجتمعاتنا، والأمر يتعدى الخصوصية إلى طبيعة المجتمع وحراكه الاقتصادي وتكوين الدولة في سياق أوسع.
اللقاءات حول القانون كانت كمن يسمع صداه، وأحدثت التسريبات -خلال الأيام العشرة الماضية- بشأنها لغطا ومخاوف لم تتوقف بعد في سوق اقتصادية تنمو فيها الشائعات، وكانت أم القضايا في المناقشات وما تسرب منها إشكالية أن يلاحق الجهاز الضريبي المحلي مكلفين لديهم استثمارات في الخارج، وهو ما يعيد الذاكرة إلى دور دائرة الإيرادات الداخلية (جهاز الضريبة في الولايات المتحدة) وأنماط المطاردة العديدة التي يتبعها في ملاحقة دافعي الضريبة الاميركيين داخل وخارج الحدود، وذلك ضمن قوة لهذه الدائرة تزيد ولا تنقص بوصفها الجهاز الحكومي الأكثر أهمية في الولايات المتحدة والأكثر فاعلية.
المفارقة في كل ما سبق أن التشريع وجد أساسا لتنظيم أمور الناس والمجتمع وتفاصيل حياتهم فهل يقوى الاميركيون بخبراتهم التي تناسب مجتمعاتهم على الوصول إلى صيغ تناسب الأردنيين في حياتهم مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الاقتصاد الأردني وتركيبة الدولة ككل؟، وفي الوقت الذي يجهد فيه المشرع المحلي للوصول إلى نقطة التوازن في التشريع، كيف سيتسنى لمن كتب تشريعا أو نقله كما هو في بلاده الوصول إلى نقطة التوازن؟.
المناقشات حول مسودة القانون توقفت حاليا بعد الصخب والنفور اللذين رافقا مشروع القانون منذ بدء الحديث عنهما، وينتظر البرلمان عدة شهور ليلتئم مجددا وربما يناقش المشروع في بداية دورته المقبلة، بيد أن الأزمة بشأن التعاطي مع كل ما هو إصلاح مالي في البلاد تكمن في المضمون لا الشكل، فثمة من يفكر بطريقة لا تناسب مجتمعنا، وثمة مجلس نواب أنيطت به مهمة التشريع، وقبل هذا وذاك، نقرأ شهريا عن ترفيعات لكثيرين ممن حازوا لقب مستشار في مؤسسات ودوائر مالية وغيرهم المئات من خبراء القانون والمحامين الاكفاء. كل هؤلاء لا يستطيعون انجاز تشريع ضريبي يناسب البلاد؟!
سمعت من مسؤولين حكوميين قبل بضع سنوات أن العلاقة مع وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين قد انتهت، واستعيض عنها ببرنامج وطني يهدف إلى معالجة التشوهات وتصويب الاختلالات المالية والاقتصادية، وما أراه اليوم ليس سوى اعتمادا شبه كامل على الخارج في التشريع وأنماط المشاريع والتوجهات الخاصة بالتعليم ونسق الحياة وطبيعة العلاقات، هذا الخارج الذي رفضته ماليزيا قبل أكثر من ربع قرن وحققت تميزا ونجاحا يعترف به الاميركيون قبل غيرهم.