سيكون لإجازة هذا العام طعم مختلف ، ربما لأنها جاءت بعد عامين كاملين طويلين كدهرين اتصلا ببعضهما فلم يتركا للمشتاق فسحة يروح فيها عن نفسه . وربما لأن الفضاء النفسي اختلف بعد أن انفتحت أبواب عالم جديد عبر أثير الانترنت ، عالم الكتابة والصحافة ، فبات على مسرح الأحداث شخوص جدد ، نشتاق لرؤيتهم ونتمنى أن نجالسهم عن قرب ، فنتواصل ونتحاور ويلقي كل بهمومه على الآخر ، المغترب على المقيم والمقيم على المغترب ، فالهموم متشابكة وان تباعدت المسافات وطال بنا الرحيل .
أجزم أن عمان تغيرت كثيرا ، وأن عين الرائي ستلاحظ ما غطت به هذه المدينة وجهها من زواق ومساحيق تجميل ، عمران مستمر وأبراج ومشاريع لا تحصى ولا تعد . من الجميل أن يرى المرء حبيبته قد تجملت قبل لقائه ، لكن المحب الحقيقي يبحث عن ما هو أهم من ذلك ، فهو يبحث عن ماض وذكريات ، عن طفولة وشباب يافع وعلاقات إنسانية وجيرة وتراحم ، يبحث المحب عن أصالة المكان وروعة الزمان الذي أفسدته – حتما – مساحيق التجميل وروح عصر مختلف تباعدت فيه الذوات عن معانيها الحقيقية ، فطحنتها صعوبات الحياة ومتطلبات الحداثة والمسايرة .
قد تكون عمان تغيرت وتضخمت وامتدت آثار ( السوليدير ) المرتقب إلى أكثر معالمها أصالة وعبقا ، لكن دعونا من عمان ولنتجه جنوبا ونسأل : هل تغيرت القصر يا ترى ؟ هل تعرفون القصر ؟ ربما لم يرها أكثركم ، هي مكان تفوح منه رائحة التاريخ وعراقة الأردن ، فهي أصلا أقيمت حول قصر روماني قديم أحاطت به من جهاته الأربع فنُسبت إليه وسُميت باسمه . قد يكون في رمزية التفاف هذه المدينة الصغيرة حول معلم أثري عريق ما يوجه أنظارنا إلى حقيقة أن الأردن ممتد تاريخيا إلى أعمق الأعماق ، وأن لإنسانه تاريخا مجيدا ، نجهل أكثره ، لأننا وللأسف الشديد لم نعد قادرين على أن نميز بين الجوهر والصورة . علينا أن نراجع أنفسنا كثيرا ونفخر بتاريخنا وعراقتنا ، ونحدد بدقة معنى الانتماء ونرتب الأولويات في حياتنا ، فالأردن هبة السماء فقط وتاريخه مديد لا يتوقف عند حقبة واحدة من الزمان .
المهم أن القصر أكثر مقاومة للتغيير وإنسانها أشد ارتباطا بقيمه وأصالته ، تماما كما هم أبناء المدن الأردنية الأخرى ، النائية عن العاصمة والبعيدة عن عين الحكومات وهموم المسئولين الذين لا يتذكرونها ويسألون عن احتياجاتها إلا إن طرأ طارئ انتخابي أو ما شابهه . هناك في أحضان بيت أبي في الجنوب سأكون قادرا على الولوج إلى زماني القديم وممارسة طقوسي المحببة ، سأعود طفلا يمارس مشاغباته منذ طلوع الفجر حتى مغيب الشمس ، أريد أن أتعرض لألف " فشخة " وألف " رفسة " وأريد أن أنجح هذه المرة أيضا في تسلق جبل شيحان والوصول إلى قمته برغم ما في ذلك من أخطار وهوام وعقارب ، أريد أن أعود إلى جدتي آخر النهار منهكا ممزق الثياب فتواجهني بلوم خافت تحاول أن تخفي من خلاله ما اعتصر قلبها من قلق وإشفاق على مغيبي . جدتي اليوم لا تستطيع الحركة إلا بعد جهد جهيد ، هي أسيرة سريرها ، لكن عينيها ما زالتا تحملان نفس الدفء ، وفي قلبها ما لا حد له من المشاعر الفياضة والطهر والإيمان .
سيتحلق الأحباب ويتجمعون ترحيبا بالزائر السنوي ، أعرف ملاحظاتهم وتعليقاتهم منذ الآن ، سيكونون قادرين على أن يبصروا ما طرأ علينا من تغير أكثر من قدرتنا نحن على إبصار أنفسنا ، لكن بالمقابل سنكون نحن أقدر على إبصارهم أيضا وملاحظة التغييرات التي طرأت عليهم ، سنتحدث عن ارتفاع الأسعار وتدني مستوى الرواتب ، وقد يمتد الحديث إلى تحرير الأسرى العرب وواجب إطلاق الأسرى الأردنيين الآن . سأفتح أنا هذا الموضوع ، لأن ثمة أشياء مشتركة بين الأسير والمغترب ، أشياء لا يدركها إلا من عانى البعد عن وطنه ومفارقة أحبابه .
هب الشوق ما عادلي في الغربة قعود ، أمد الله في عمر المبدع الكبير توفيق النمري ، ففي كلمات أغانيه ما يختصر مسافات شاسعة يقطعها المرء محاولا التوفيق بين عمق مشاعره وضآلة مخزونه من الكلمات المعبرة . أخشى الصعود إلى طائرة صباح الخميس ، فبرغم اشتياقي العارم الذي تكاد تقتلعني أعاصيره ، غير أني أوقن أن عداد الدقائق والثواني لا بد أن ينقضي ، وستنتهي الإجازة كما بدأت ، ونعود إلى روتيننا القاتل ، نخاطب الوطن عبر أثير الهاتف ، أو صفحات الإنترنت ، وفي قلوبنا من اللوعة ما لا يعلمه إلا الله .
samhm111@hotmail.com