حتى لا تتحول كاميرات الاقصى الى " اسفين" اسرائيلي، يريده نتنياهو ضمنا لخرق نسيج العلاقات الاردنية – الفلسطينية القوي، والانفراد بالاقصى والقدس لتحقيق مآربه ويمينه المتطرف، اذن لا بد من وضع النقاط على الحروف.
مبدأ "فرق تسد" الذي تتفنن به دولة الاحتلال والماثل حاليا بالانقسام بين فتح وحماس، لا نريد ان يستخدمه نتنياهو الخبيث بين الاردن والسلطة الفلسطينية ايضا في ملف الاقصى والقدس، ليتمكن بكل سهولة من تغيير "الوضع القائم "، وفرض المزيد من التهويد بالمدينة المقدسة،وجعله امرا واقعا يرضخ له الجميع بضغط دولي .
القيادة الاردنية تتعامل مع مجمل ملفات الصراع بحكمة ورشاد، وهي تستغل التوازنات السياسية وظروف المجتمع الدولي لتحقيق الغاية والهدف، فكيف اذا كان الحديث هنا يدور عن ملف الاقصى والقدس، وهو الاهم.
ان التوجه لتركيب 55 كاميرا في ساحات المسجد الاقصى، برعاية شخصية من الملك عبدالله الثاني، وهو صاحب الفكرة، انما يوفر للاردن ادلة دامغة موثقة، تضاف لملف الاقتحامات المتكررة للمسجد الاقصى المتابع حاليا في وزارة الاوقاف، والذي تزداد اوراقه يوما بعد يوم، حتى تقدم جميعها كسند قانوني للمؤسسات الدولية يسهل من خلالها مقاضاة اسرائيل، وما استصدار الاردن في السابق لقرار محكمة لاهاي حول جدار الفصل العنصري لاكبر دليل على ذلك.
في المقابل نقول ان ما صدر عن رئيس الجناح الشمالي للحركة الاسلامية في فلسطين المحلتة الشيخ رائد صلاح مؤخرا من تخوفات، والتحفظات الفلسطينية على تركيب الكاميرات، تعتبر مشروعة نوعا ما، وينبغي ان تؤخد على محمل الجد.
فالتهديدات التي اطلقها المتطرف اوري ارئيل، وهو وزير في حكومة نتنياهو، بان هذه الكاميرات لن تثنيه هو واعوان الهيكل مثل يهودا غليك، وغيرهم من مواصلة اقتحامات الاقصى، حيث اعلنها صراحة انه سيقف امام هذه الكاميرات عند تركيبها متحديا، وانه من السهل قطع التيار الكهربائي عنها وتعطيلها، هذا ما دفع بالشيخ صلاح، والذي ظهر على شاشة التلفزيون الاردني قبل اسابيع في برنامج "عين على القدس" مؤكدا حق الاردن الكامل بادارة خالصة للاقصى حسب المواثيق الدولية، وغيره لاطلاق تحذيراتهم ( الاذاعة الاسرائيلية 25 / 1 / 2016 ).
لكن ما نخالف به الشيخ صلاح هو قوله ان " الكاميرات ستتحول الى عيون للاحتلال "، هذا الامر كان من الممكن في حال قبل الاردن بالطرح الذي قدمه وزير الامن الداخلي الاسرائيلي جلعاد اردان، والوزير اوري ارئيل بوضع كاميرات داخل المساجد لرصد "المشاغبين وخارقي النظام" من المرابطين في الاقصى ( اسرائيل اليوم 6 / 3 / 2016 )
ان حقيقة رضوخ تل ابيب لاصرار الاردن رفض المطلب الاسرائيلي بتركيب كاميرات داخل المساجد، واقتصار تركيبها في ساحات الاقصى الممتدة على مساحة 144 دونما، وتطويع نتنياهو للمتشددين داخل حكومته لقبول تفاهمات كيري من اكتوبر 2015 ، وتجنيده وزراء الليكود للدفاع عن قراره، باعتباره "مكسب سياسي" ،كل هذه السلاسة الاسرائيلية غير المعهودة، انما تعكس رغبة نتنياهو الخبيث باستغلال الموضوع لصالحه لاحداث شرخ حول القدس بين الاردن والسلطة، بالتالي المضي قدما في تنفيذ مخططات اكثر خطورة في الاقصى.
علينا ان لا نغفل هنا ان نتنياهو الذي اعلن قبل عامين امام حكومته السابقة صراحة بان " المعركة على القدس قد بدات "، يسعى جاهدا للبقاء في سدة الحكم، والحفاظ على ائتلافه الهش ( القائم على 61 عضوا من اصل 120 في الكينست )، وذلك من خلال حل خلافاته الائتلافية على حساب المزيد من تهويد الاقصى.
في الاونة الاخيرة تجدد خلاف كبير سابق بين التيارات الدينية في اسرائيل حول تسوية تبناها نتنياهو نفسه بين اليهود الحريدييم المتزمتين، او ما يعرفون باسم "اليهود الارثوذكس "، والذين يمثلهم حزبا شاس ويهدوت هالتوراة في ائتلاف نتنياهو الحالي، واليهود الاصلاحيين والمتجددين غير الارثوذكس – يهود اميركا الشمالية – ومعهم "نساء الهيكل" الذين طالبوا بتسهيلات للصلاة في حائط البراق – المبكى عند اليهود – فما كان من نتنياهو الا ان استغل الفرصة، وأعاد طرح " خطة شيرانسكي" من العام 2013 لاقامة ساحة ثالثة مختلطة يصلي فيها الرجال والنساء معا، تضاف للساحتين الاخريين التي يصلي فيهما حاليا الرجال والنساء منفصلين ( يديعوت احرونوت 31 /1/2016 )
"خطة شيرانسكي" تنسب الى رئيس الوكالة اليهودية المتطرف الروسي الاصل ناتان شيرانسكي، وتهدف لتوسعة ساحة البراق لمئات الامتار نحو الجنوب باتجاه ما تطلق عليه اسرائيل اسم "قوس روبنسون" عند الزاوية الجنوبية الغربية للحرم القدسي الشريف، بحيث تشكل تواصلا في منطقة حائط البراق (الحائط الغربي عند اليهود) يمتد من الشمال الى اقصى الجنوب، مما يسهل مستقبلا عملية ازالة تلة المغاربة والاثار الاسلامية الواقعة على جانبها الايمن، وصولا الى الحائط الجنوبي للحرم ( هارتس 10/4/2013 )
مكمن الخطورة ان الساحة المختلطة ستقام في منطقة مليئة بالاثار الاسلامية، في نطاق ما تطلق عليها سلطات الاحتلال اسم "الحديقة الاثرية"،التي تولي ادارتها لمنظمة "العاد" اليهودية المتطرفة الاكثر نشاطا ونفوذا اليوم في تهويد الاقصى، من خلال الاستفادة من عوائد السياحة اليهودية الاتية من الخارج، بالاضافة الى ملايين الدولارات التي تجمعها من اموال التبرعات الاميركية المعفاه من الضرائب، وستنظم الى "العاد" في هذا الجهد ايضا "الوكالة اليهودية" الاكثر انتشارا في العالم، حيث ستتولى الاخيرة ادارة الساحة الثالثة المختلطة، بموجب تسوية نتنياهو .
مسالة اقامة ساحة مختلطة اثارت خلافا قويا بين التيارات الدينية في اسرائيل حيث اعتبرها شركاء نتنياهو الحريدييم المتزمتين في الائتلاف – شاس ويهودوت هالتوراة – انتصارا للاصلاحيين والمتجددين، غير الارذوكس الذين يجري التشكيك بيهوديتهم، وهذا الخلاف اوشك على تفكيك الائتلاف، الى جانب خلاف ديني اخر حول "قانون اماكن الطهارة "، لكن اخر المعلومات التي رشحت تفيد انه جرى التوصل لتسوية تحول دون خروج الحريدييم من الائتلاف، وان هذه الساحة ستديرها الوكالة اليهودية ( الاذاعة الاسرائيلية 20/3/2016 )
نعرف جيدا كيف يفكر نتنياهو وكيف يستغل الفرص ويطوعها لصالحه، في اكتوبر الماضي عندما اندلعت انتفاضة السكاكين والدهس والفيسبوك، وتازمت الاوضاع في القدس لدرجة كبيرة، واصحبت الامور خارج سيطرة القبضة الامنية الاسرائيلية، كان لا بد من تدخل المنقذ الاميركي، فجاء كيري الى المنطقة ،واقنعه نتنياهو بضرورة الدور الاردني، فطرح عليه فكرة الكاميرات، باعتبارها طرح اردني سابق، ومن هنا جاءت تفاهمات كيري في عمان في اكتوبر 2015 وقرار تركيب الكاميرات.
ينبغي ان نتوقف ايضا عند قرار محكمة العدل العليا في اسرائيل الاخير، والذي رفضت فيه الالتماس العاجل الذي قدمه المتطرفون اليهود من خلال "المجلس الاكاديمي للسياسات الوطنية"، و"صندوق ميراث الاستقلال " لمنع الاردن من تركيب الكاميرات في الاقصى، حيث ان القرار لم يكن قطعيا، وجاء فيه " ان تركيب كاميرات على جبل الهيكل يعتبر خطوة يمكن العودة عنها، اذ من الممكن ازالتها حتى بعد تركيبها "(معاريف 22 / 3 / 2016 ) .
اخيرا لا اخرا، لا بد للاردن والاشقاء الفلسطينيين ان يتنبهوا كثيرا لهذه التطورات، وحسنا فعل وزير الخارجية ناصر جودة، وغادر على عجل الى رام الله الخميس الماضي، والتقى القيادة الفلسطينية، حيث كان موضوع كاميرات الاقصى حاضرا بقوة ، خصوصا بعدما صدر عن الشيخ رائد صلاح من اقوال،وبعض التحفظات الفلسطينية .
على الاردن والسلطة الفلسطينية دوام التنسيق فيما بينهما لقطع الطريق امام مخططات نتنياهو واسافينه، الفلسطينيون الذين اكدوا في 2013 اهمية الوصاية الهاشمية للحافظ على الاقصى والقدس، عليهم الاطمئنان كثيرا، فليتركوا للاردن هذا الملف حاليا، وليركزوا هم على ملف الاستيطان، والمقاطعة الدولية، ومقاضاة اسرائيل على جرائم الحرب التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني الاعزل، وبذلك يكون الجهد تكاملي يمكن ان نصل من خلاله الى الغاية الاساسية، وهي انهاء الاحتلال الاسرائيلي، واقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية .