كنت في زيارة لإحدى المدارس القريبة من بيتي ؛ قاصدا حضور الاحتفال التي كانت تقيمه تلك المدرسة احتفاء بتوحيد الكلمات التي تفرقت منذ زمن بعيد ؛ فكنت جالسا في الصف الذي يلي صف المدعوين من وجهاء البلدة ؛ بالإضافة إلى البعض من الموجهين التربويين. وبينما نحن بانتظار بدء الاحتفال ؛ نظرت عن يميني فوجدت رجلاً كان يبدو لي أنه من معلمي المدرسة يحك بيديه بطريقة ملفتة للأنظار ، حيث كان يجلس هنا ويقوم ليجلس هناك ... ، لم اطل التفكير في ذلك المشهد القائم ؛ حيث كنت متلهفا لمشاهدة وسماع تلك الفعاليات التي تعودت أن اقتنص الفرصة المناسبة لرؤيتها وسماعها من حين لآخر.وبينما نحن على هذا الأمر إذ قام مدير الحفل بالإشارة لبدء المراسم ؛ حيث استهل بدء الاحتفال بتقديم نخبة من المعلمين لإلقاء الخطابات التي تليق بمثل ذلك الاحتفال ؛ فقدم إيعازاً لمعلم اللغة العربية ليكون أول من يبدأ بإلقاء الخطاب الذي قد أعده من زمن ليس ببعيد ، حيث أخذ يصدع بتلك الخطبة التي كانت تحتوي على العبارات الصارخة والجمل المعبرة من خلال مكبرات صوت كادت أن تسابق الريح لتتمكن من إيصال العبارات المنمقة لآذان السامعين ، وبينما نحن نستمع لتلك الخطبة أخذت أطلق نظراتي عن اليمين وعن الشمال وإذا بأفواج هائلة من الناس أعجبتهم تلك الكلمات المرتبة ترتيبا عجيبا ؛ فأخذوا يجلسون في الطرقات والساحات التي امتلأت بالحشود وهم ينظرون إلى ذلك المنبر الذي يعتليه ذلك الخطيب الفذ.
استمر في حديثه عن تلك الفئة التي من أجلها بني ذلك اللقاء وأخذ ينادي بملء فيه معلنا عن تاريخ تلك الفئة وعن الأمجاد التي تقدمها لهذه الأمة مدعياًَ أنه من فئة قهرت المستحيل وعاش ابنها في جوٍ عليل ولم يغب أخوها عن أرضه ولم يعش في وطنه البديل بعدما حررت الثرى كله ميلا فميل ؛ وأسرت أعداءها دون حرب حتى أصبحت رياح العروبة تسوق لنا الغيوم لتسقينا من خلالها الماء العذب السلسبيل ، الذي لم ير ارتفاعا بسعره ولم يفارق أهله العيش النضر الجميل.
عندها كنت متجليا بما كنت اسمع ؛ شاكرا ربي أنني خلقت عربيا عزيزا بعيدا عن (ذل الغابرين) ولكن ما أدهشني هو أنني كل ما التفت إلى ذلك الرجل رأيته يفرك بيديه ويعض على شفتيه متمتماً بكلام لا أعرف ما مضمونه ؛ متحمسا لشيء ما .. فلعله ينتظر دوره في تأدية واجبه بإلقاء خطابه.
تابعت مسيرتي التي كانت تبحث عن التفاؤل وتداركت ما فاتني من خطبة ذلك المعلم حتى رأيته ينتفخ شرفا عندما صفق له الحضور حين اختتام خطبته ؛ فقد أصبحت أشعر وكأنني أعيش بين صفوف مَن أعدّوا ما استطاعوا من قوة ؛ وحققوا أهدافهم بعد أن ملأوا الدنيا بصهيل الخيل . وبعد أن انتهى من خطابه أخذ مدير الحفل يثني عليه بصدق المشاعر ويدير أسماع الناس بخطبة وراء خطبة يلقيها معلم تلو معلم ؛ حتى جاء دور ذلك الرجل الذي شغلني طيلة الاحتفال ؛ فصعد منبر الخطابة بخطوات بطيئة تحكي قصة غنية بمضمونها حتى وصل إلى أعلى المنبر معرفاً بنفسه ؛ فقد كان معلما لمادة التاريخ ، فأخذ ينظر إلى تلك الحشود مخرجا من جيبه وثائق كثيرة تبدأ أوراقها بخطبة قد أعدها لذلك الحفل ؛ مدعما كلامه بتلك المستندات التي أحرقت ما كنت أعيش به من مشاعر جياشة مستظلاً بها بكبرياء شامخ جعلني حطاما بعدما استفتح كلمته مشيرا عن طغاة العالم الذين اجتمعوا لاقتلاع المآذن والنخيل ؛ مقطعين رؤوسا قد تخلت عن الإذعان وارتفعت الشيء القليل ؛ فأخذ يبكي على بلاد العرب وكأنه قتيل جاهل يبكي أخاه القتيل حتى طارت حمامة سلامهم بعيدا ولم يسمعوا لها الهديل.
عندها نظرت من حولي وإذا بالحشود قد تفرقت إحباطاً ويأساً ؛ فبدا ظلام اليأس يحضن أمنياتي وأخذ فجرها يرتدي الليل الطويل ، وأمست شموس القهر تغزو ذكرياتي بعدما صار موطني يشعرني بأنني ضيف ثقيل ، فناديت وطني بصوت صارخ .. أأرحل والهوى يأبى الرحيل ؟؟!! .. فلم يبق معجزة في الضعف تسندنا ولم يعد يفدينا كبش إسماعيل ، فبعد أن سرى رسولنا إلى الأقصى وأدى الصلاة إماما بالنبيين ؛ تفرقت وحدتنا وأبدت للمعتدين الضعف واللين .. فناديت يا من اصطفاه ربنا بعد أن أسرى به ليعلمنا أن لا ننسى فلسطين ؛ أبشر يا مصطفى فقد صرنا من مصر إلى الشام قلباً واحدا .. ولم يبق إلا الاستمتاع بأطلال الحنين.
www.waleed-aabu.com