حتى الآن لم يحالف الحظ أي من أولادي الذهاب في رحلة مدرسية رغم تحمسهم الشديد لذلك ، فبعد كل عملية لجمع الرسوم والتوقيع على موافقات أولياء الأمور ،»تفرط» الرحلة على أهون الأسباب..لكنّ ما يفرحني تلك الحماسة المتّقدة في عيون الصغار التي تذكّرني بطفولتي وبزمن الرحلات غير الجميل على الإطلاق..
فعلى مدار 12 سنة دراسية «زبطت» معنا فقط ثلاث رحلات مدرسية ، واحدة على الأغوار الشمالية وأم قيس، والثانية إلى البحر الميت والأغوار أيضا ، والثالثة رحلة محلية إلى شلالة «الرمثا» و في الرحلة الثالثة تم نقلنا على متن خطوط «بكم ديانا» ايرلاين .. وبهذه الرحلة تحديداً لم يتغير علينا شيء فالبغال التي كنا نشاهدها في خانات الحارة مرتاحة ومضطجعة، شفناها هناك في أراضي الشلالة أثناء عملها الرسمي في الحراثة، ورؤوس التريلات التي كانت تصطف في حينا وأمام البيوت هي نفسها التي ألقت علينا زامور التحية الصباحي أثناء توجهها الى المدينة الصناعية في اربد..
لكن الرحلة المفصلية التي كرهت لأجلها جميع أصناف شمّات الهوا و التي ما زلت أخزنها في العقل الداكن من ذاكرتي هي « البحر الميت»..ناهيك على أنني قوبلت بوابل من النصائح والإرشادات والتحذير والاقتراب من البحر خشية الغرق في البحر الميت- رغم ان آخر حادثة للغرق هناك كانت لقوم لوط فقط – فإن بعض الأخوة تطوّع باحثاُ في رياض الصالحين عن أحاديث صحيحة تنهي عن المكوث في تلك المنطقة في محاولة إفساد الرحلة عليّ من باب خوفه علي وبحسن نية مطلقة طبعاً .. ليشارك ثالث ويختصر الطريق على البحث قائلا: «معروف انها «منطقة غضب».. وهنا يزيد منسوب القلق عند الوالدة رحمها الله وتقول بصوت منخفض: «ان شاء الله ما تزبط هالرحلة».. في ظل هذه الأجواء التشجيعية والترفيهية من الصعب أن تنام مرتاحاً متفائلاً بمشوار الغد..فطوال الليل تتخيل نفسك وأنت تغرق أو يهاجمك سمك القرش من ساقك اليمنى ، او تتخيل أن يتركك الباص ويغادر ويلتقطك بعض السيارة ..الخ من هلوسات الطفولة المرعوبة..
في اليوم التالي نحمل أمتعتنا ونقف أمام باب المدرسة منتظرين مربي الصف ليحضر لنا الباص المستأجر، يوقف المدير سيارته «الأوبل» ليش واقفين هون؟ بفرح مكبوت: عندنا رحلة استاد!..فيتركنا ويغادر.. هناك أطباق كرتون زرقاء وحمراء يمسكها ابن مربي الصف ، مكتوب عليها (..مدرسة ابن عربي الابتدائية للبنين الرحلة الى : البحر الميت والأغوار ...إشراف الأستاذ (......) أبو علاء)، حتى اللحظة لا اعرف سبب كتابة اسم المشرف على الكرتونة التي ستلصق على واجهة وجنبي الباص... المهم بعد الانطلاق لا بد ان يوقف مربي الصف الباص أمام فرّان متواضع ليشتري «خبز مشروح» ثم يتلوّى الباص بين الحارات التي لا نعرفها وهو يرشد بالسائق من هون..يسار..يمين..من هون..من عند الحاوية شمال.. فيصيح أحد الطلاب: شو وصلنا استاد؟.فيلف المعلم وجهه راداً: رايحين نجيب استاذ عمر يا دابة!...
وبين كفر خل وثغرة عصفور أي بعد نصف ساعة من انطلاق الرحلة ..يوقفون الباص ويطلقونا لنتناول إفطارنا على شكل مجموعات...»بيض سلق على زيتون..على.. اصبع حلاوة..على سردين حلو..على فرمتين مرتديلا على زر بندورة)..نأكل وننظر من بعيد بحسد كبير لقرعة «علاء» ابن مربي الصف الذي يجلس جنباً الى جنب في افطار فاخر مع شوفير الباص والاستاذ عمر ووالده، إنهم يشربون الشاي مع الفطور بينما لم يتبرّع أي محترم من مجموعتنا باحضار «سخانة» شاي، لا يهم نتنهّد و»نجغم» من البيض المسلوق ما تيسر لنا بنكد منقطع النظير..
عند الوصول للبحر الميت تكتشف باصات من مختلف مناطق المملكة، فيحذرنا المعلم المشرف: بدناش مشاكل مع حدا..وبالفعل مجرد نزولنا من الباص قال احد الطلاب الزعران الواقف قرب باص مدرستهم لأحد زعران مدرستنا النازل للتو كلمة خادشة للحياء .. فرد عليه ازعر مدرستنا ..» فتشب معركة فجأة ، ليعود الينا أزعر مدرستنا وقد قُدَّ قميصه من «دُبر» وبعد تطييب خاطر ووضع شاش و»يود» على جبهته يذهب الأولاد للسباحة ببناطيلهم ويرمون أنفسهم بالمنسوب المنخفض كي لا يغرقوا بينما أعود انا الى الباص احتراماً لكلمة المعلم « بدناش مشاكل مع حدا» ثم تعود بي الذاكرة «فلاش باك» الى كلام احد اخوتي عندما قال: «منطقة غضب» لأبرر وقوع المشاجرة، ثم أستذكر تحذيرات الابتعاد عن المسطحات المائية لذا بقيت في الباص أقرأ العبارات المكتوبة على الكراسي عبارة عبارة ورائحة الليمون وعلب السردين تزكم أنفي...ولأن الماء مالح ، والحمامات مزدحمة ، والخزانات فارغة، وشوفير الباص مستعجل يتم النداء على الطلاب بضرورة التوجه الى الباص للعودة الى الرمثا فوراً..يهرول الاولاد بمائهم وملحهم من البحر الى «الكوستر» يجلسون في كراسيهم وبعد ان تنشف الماء عن ملابسهم يبدأ الهرش الجماعي بسبب ملوحة الجلد..فواضح شكل الملح المتحور على اليدين والرقبة ..يعني لو حطيت «قرن فليفلة تحت ابط واحدهم بيطلع مخلل»..يحاولون أن يتناسوا الحكة بتسلية انفسهم بالأغاني للشوفير وللامن العام ..ثم يتناولون غداءهم بالقرب من سيل جرش..وغالباً ما يكون الغداء «مقلوبة على ماجي» او «سردين حار»..نأكل وننظر من بعيد الى قرعة علاء الذي يجلس جنباً الى جنب مع الشوفير والاستاذ عمر ووالده في غداء فاخر.
قبل الغروب نكون قد وصلنا بيوتنا بسعادة مصطنعة ، نفتح حقائبنا للأهل حيث نريهم ما بقي معانا من زوادة الرحلة : برتقالة دم الزغلول، نص رغيف مكبوب عليه ميرندا.. «مثلثات»جبنة الأشبال وكيس بزر بطيخ..
الراي