البعد السياسي لنصر الكرامة
د.حسام العتوم
24-03-2016 12:46 PM
ذكر وصفي التل في كتابه (كتابات في القضايا العربية، ص37).... قائلاً: (فليست فلسطين، إذن، الهدف النهائي للصهيونية، وإنما هي رأس جسر لتوسعات أخرى، تقرر زمانها ومكانها عناصر القوة والضعف في مفهومها الشامل سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وعلمياً وتنظيمياً، معبأة في طاقة كلية تتصارع مع طاقة كلية مقابلة في كفتي ميزان، ترجح إحداهما على الأخرى) انتهى الاقتباس، وبناء عليه فإن كل من يلتفت إلى الوراء قليلاً وسط زمننا المعاصر سيلحظ كيف بنت (إسرائيل) كيانها على شكل دولة نووية السلاح وتقليدي متطور مرتكزة بداية في عمق التاريخ على مؤتمر بازل السويسري الصهيوني 1897 ولاحقاً على إسناد الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي لها عبر معاهدة سايكس بيكو 1916 ووعد بلفور 1917 بعد الاصطدام مع ثورة العرب الكبرى بقيادة ملك العرب الشريف الحسين بن علي وأبنائه الأمراء وفي مقدمتهم عبدالله الأول وفيصل، وعبر رسائل ميكماهون المسمومة والمشهورة في المقابل ومن خلال تحريك عصابات (شتيرن)، و(الهاغاناه) المسلحة في عشرينات القرن الماضي، ووسط الالتفاف لاحقاً على عصبة الأمم عام 1947 من أجل تقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة عبرية نراها الآن تحت اسم (إسرائيل)، والثانية خطط لها أن تكون سرابية ألا وهي (فلسطين) وأيامنا هذه شاهدة عيان، والحراك السياسي والدبلوماسي الأمريكي خارج الجهد المشترك لمجلس الأمن ومن خلال الجولات المكوكية الفارغة تؤكد ذلك، والزيارات الشرق أوسطية للمستشرق الروسي الراحل يفغيني بريماكوف رجل الأمن والفكر والسياسة المحنك كشف لنا المستور عام 1983 حول مشروع دولة فلسطين وأكد وقوفه أمام طريق مسدود بعد لقاءات جادة له مع مسؤولين وقادة أحزاب إسرائيليين، وهو ما أكده لي في عمان هذا العام 2016 السيد عدنان أبوعودة الوزير ورجل الدولة الأردني الأسبق، وكان ملكنا الراحل الحسين يعلم بذلك.
وهنا لا يمكننا الحديث عن نصرنا الشامخ في معركة الكرامة البطلة تاريخ 21/03/1968 الذي يتزامن أردنياً مع يوم الأم من دون أن نربطه مع القضية الفلسطينية العادلة بكامل عمقها التاريخي وبإيجاز؛ الدكتور عبدالوهاب المسيري في موسوعته اليهود واليهودية والصهيونية، ص525) كتب قائلاً: (بأن المسألة الفلسطينية تشير إلى تلك المشكلة التي نجمت عن وصول كتلة بشرية من المستوطنين الصهاينة لتستولي على الأرض الفلسطينية باعتبارها أرضاً بلا شعب، وكان المفروض أن تحل هذه الكتلة محل السكان الأصليين، الذي يكون مصيرهم عادة في إطار الاستعمار الاستيطاني الاحتلالي، الإبادة أو الطرد، ورغم أن الاستعمار الصهيوني لم يقم بإبادة الفلسطينيين إلا أنه طرد غالبيتهم الساحقة عام 1948، وعندما احتل الضفة الغربية وغزة عام 1967 استمر في عملية الطرد إلا أنه لم يوفق في محاولته وقد رفض الفلسطينيون عملية الاغتصاب وقاموا بمقاومة كتلة المستوطنين الوافدة بأشكال مختلفة)، انتهى الاقتباس، ويستدل من ذلك أن إسرائيل (دولة) لا تنام ما دامت هي السارقة للتاريخ ولحقوق العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيون، وتقبل لذاتها إزعاج ومحاصرة نِدّها وترفض العكس وطموحها من النيل إلى الفرات، وبحجة مطاردة المقاومة الفلسطينية تضع عينها على الأردن وهدفها الأبعد كل بلاد العرب ونفطهم وغازهم وإنسانهم وحضارتهم.
ودوّن اللواء محمود الناطور في كتابه (معركة الكرامة، ص173/174) شهادة الفريق مشهور حديثة الجازي قائد المعركة الميداني وبطلها الذي قال آنذاك (.... صار على إسرائيل إعادة ترتيب أوراقها من جديد، فعدوها الان زئبقي لا يستقر في أرض ولا يظلّه سقف يمكن قصفه، وقرار القضاء عليه في مهده مسألة معقدة، وهكذا كان قرار ضرب الأراضي الأردنية، بل احتلال جزء منها لجعلها منطقة أمنية من جهة، سيّما التنسيق الكامل للجيش مع حركة المقاومة كان على أوجه)، ويذكر هنا بأن الفريق الجازي كان قائداً للفرقة الأولى فيما قائد الثانية عاطف المجالي، ولقد رفض وقف إطلاق النار تحت ضغوط دولية مع العدو الإسرائيلي قبل خروج آخر جندي لهم أرض المعركة، كما أصر على أن لا يشارك في أي حقبة زمنية تتجاوز الخندق الواحد مع أهل فلسطين، وما علق في ذهن والدي المرحوم الرائد مصطفى العتوم أحد محاربي (الكرامة) بالمناسبة قوله لي بأن سلاح المدفعية كان كله يرمي ويقصف قدوم أية دبابة معادية ولو كانت واحدة بمفردها ويتذكر كيف أن صاروخاً إسرائيلياً ثقب مغارة إحدى غرف القيادة بوجوده ولم ينفجر.
ولولا الجهود الاستباقية الكبيرة الذي بذلها عظيمنا الراحل الحسين بعد نكسة حزيران في مجال إعادة تسليح قواتنا المسلحة العربية الأردنية الباسلة، ولولا قيادة جلالته المباشرة الحكيمة لمعركة الكرامة لما كان النصر الأكيد باسم كل العرب؛ ذكر فريدون صاحب مؤلف كتاب (مهنتي كملك – أحاديث ملكية، ص211) والذي ترجمه من الفرنسية غازي غزيل قول للحسين بأنه (بعد مضي ثلاث سنوات، كان لدي جيش كامل العدد والعدة حسن التدريب، يملك بشكل خاص (310) من الدبابات من طراز باتون وسانترويون، وعشرين طائرة هوكر هنتر وثماني عشرة ستار فايتر، كما جهزت البلاد بنظام دفاعي من الصواريخ،.. وكان الجميع يتحدثون عن حرب جديدة في حين أنني بين عامي 1968 و1969 لم أتلق سوى نصف التجيهزات التي كنت أنتظرها)، انتهى الاقتباس، وتمكن مشروع الوحدة الوطنية الشعبية الشرعية الذي انطلق من مدينة أريحا عام 1948 بعد اجتماع مشترك لعشائر الأردن وفلسطين وأعلن عنه عام 1950 من تعزيز التلاحم من أجل معركة المصير ودحر العدو الإسرائيلي الغازي إلى ما وراء النهر الخالد وإلى ما وراء الحدود،÷ وفي كتاب سيدنا جلالة الملك عبدالله الثاني (فرصتنا الأخيرة – السعي نحو السلام في زمن الخطر، ص49/50) ذكر جلالته أيضاً بأن إسرائيل أرسلت في الساعات الأولى من الحادي والعشرين من آذار/مارس/1968 لواءين مدرّعين عبر نهر الأردني وهي تتوقع تحقيق نصر سهل، وكانت الخطة الإسرائيلية تقضي بتوجيه ضربة إلى مخيم الكرامة على مسافة عشرين ميلاً إلى الغرب من عمان، حيث يتمركز الفدائيون الفلسطينيون، ومن ثم الاتجاه نحو العاصمة، تصدى الجيش الأردني، الذي كان لا يزال يلملم جراحه جراء حرب العام 1967، للقوة الإسرائيلية المهاجمة والتحم معها في معركة طاحنة كبّد خلالها المهاجمين ما يكفي من الخسائر بحيث بدأوا، بعد بضع ساعات من القتال، يصرخون مطالبين بوقف لإطلاق النار رفض والدي أي وقف لإطراق النار قبل أن ينسحب آخر جندي إسرائيلي من (الكرامة)، انتهى الاقتباس، وإلى الأمام وبعد مرور المنطقة بمعاهدتي كامب ديفيد 1991 وأسلو 1993 اقتنعت إسرائيل بضرورة توقيع معاهدة سلام مع الأردن عام 1994 أطلق عليها (وادي عربة)، ورغم النقد الوطني الأردني الشعبي الذي لا زال يلاحقها حتى الساعة لأسباب عديدة من أهمها عدم قناعة الشارع الأردني بكامل ديمغرافيته ذات الارتباط الوشيج بفلسطين بسلام يبقى الباب موارباً ولا يحقق العدالة على الأرض خاصة بما يتعلق بمستقبل الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف مع ضمان حق العودة والتعويض وإخلاء المستوطنات من ساكنيها اليهود وعدم المساس بمواطني فلسطين التاريخية من العرب، وحماية المقدسات الإسلامية فيها والتي هي مطالب ومساعي أردنية رسمية بطبيعة الحال ولا تقبل القسمة على اثنين، وستبقى تصريحات نائب الرئيس الأمريكي بايدن الجديدة في منطقتنا وهي المخالفة للتوجه الأردني الفلسطيني المشترك حول مستقبل فلسطين مرفوضة وتسجلها في خانة الانحياز المعهود لإسرائيل، ونبقى نتطلع لنموذج روسي امريكي موحد في الشأن السوري يتمسك بوحدة الدولة السورية وترابها لتطبيقه على وحدة تراب الدولة الفلسطينية كاملة السيادة، وإلى خطة (ب) تجبر إسرائيل عبر مجلس الأمن بالقبول أولاً بالدولة الفلسطينية وقدسها وبحق العودة إليها وبعدم تهويد فلسطين لعام 1948.
وهنا لا ننسى بأن النصر في الكرامة أسس لنصر اردني وعربي آخر إلى الأمام في حرب تشرين/اكتوبر عام 1973 وهو الذي أعاد مدينة (القنيطرة) الجولانية السورية، وبدلاً من أن تمتد السيطرة الإسرائيلية وسط بلاد العرب كما خطط لها أبناء صهيون تواصلت الانسحابات الإسرائيلية من (سيناء) عام 1979، ومن (غزة) عام 2005، ولم يسجل لإسرائيل حتى اللحظة أنها توسعت تجاه العمق العربي جغرافياً لكن خطورة حراكها يكمن في خطورتها غير المباشرة الاستعمارية في جنوب السودان وفي شمال العراق الكردي، وبالتحرش في لبنان، وفي سوريا، وفي قيادة الإرهاب خفية وسط العرب وهو الذي لم يستهدفها حتى الساعة رغم تصريحاته الإعلامية السرابية واستهدافه للعرب بكامل عمقهم الديني مباشرة وللدول الأوروبية أيضاً.
والعبرة الكبيرة التي يمكن أن نستقيها من ميدان معركة الكرامة تلك هي التمسك بالخندق الواحد الأردني الفلسطيني المشترك كنمط من اشكال الوحدة العربية المنشودة، وسواء قامت الدولة الفلسطينية التي ندعو الله لها أن تقوم أم تأجل قيامها لحقبة بعيدة قادمة من الزمن فإن ارتباطنا بالخندق الوحدوي باقٍ إلى يوم الدين وإلى حين يرث الله الأرض وما عليها، وأما أن تنتصر ثورة العرب الكبرى المجيدة التي نادى بها ملك العرب الشريف الحسين بن علي 1916 أو نتراجع كعرب أمام تقدم معاهدة سايكس بيكو المشؤومة ولا خيار ثالث لنا، ونعتز بجيشنا العربي الأردني الباسل رأس المنظومة الأمنية في وطننا الأردن الغالي الذي أصبح الأكثر قوة واحترافاً وسط العرب، وكذلك بجهاز أمننا الوطني الجبار الساهر على راحتنا والمحدق إلى الداخل والخارج وبعيون حمر لا تنام، وما يخطط دولياً لسورية الشقيقة في الجوار من نظام فدرالي في إطار دولتها الموحدة نخشى أن يقود مستقبلاً إلى سايكس – بيكون سوري لا نتمناه، ولا مخرج في الجوار السوري المكلوم سياسياً وأمنياً من غير إشراك المعارضة الوطنية في القرار السوري السياسي الرسمي لنظام دمشق، وإصرار المعارضة في المقابل على إسقاط الأسد، ورفض دمشق التفاوض مع المعارضة سيدفع بسورية الوطن إلى القسمة دون أدنى شك وفرصة المشاركة في مؤتمر جنيف (3) تفتح الآفاق أمام حل جاد وعادل لأزمة سورية الدموية التي شارفت على دخول عامها السادس وسط هدنة حذرة نجحت روسيا بالتعاون مع أمريكا على قيادتها ووضعها تحت المراقبة الحثيثة، وحصار لإرهاب عصابات (داعش) و(النصرة) في زاوية القصف المستمر بهدف سحقها وغيرهم من صفوف الإرهاب لإبعادهم عن نزوة السلطة، وخطوة الرئيس بوتين بسحب قواته من سوريا الآن أعطت معانٍ جديدة أدهشت المنطقة.
ووضع وحدة العراق في جوارنا تحت تهديد التقسيم جراء انتشار إرهاب (داعش) يقلقنا، ونقل سيادته من العرين العربي إلى أمريكا ثم إلى إيران تزعجنا أيضاً، ولا بد من الإصغاء هناك في بغداد لدعوات الإصلاح وتخليصهم من تراكمات الفساد والتي هي مشكلة تنخر وسط عالمنا العربي بالمجمل، وللكرامة أكثر من معنى هنا من أهمها تخليص العرب من كافة أنواع الاحتلالات والاستعمارات المباشرة وغير المباشرة ومن الإرهاب المسعور.
وفي اليمن صراع على الكرامة والسلطة بين الانقلابيين الحوثيين من أهل اليمن المحسوبين على إيران والمسنودين من نظام الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح وبين الهادي المدعوم من السعودية وتحالفها العربي والأمريكي ووسط انتقاد روسي ودعوة من قبلها للاحتكام لصناديق الاقتراع، وفي المقابل مثلما هي نواة الكرامة والوحدة العربية تتمثل بوجود وعمل مجلس التعاون الخليجي الذي يمثل دول النفط والغاز العربية الثرية فإن الحاجة القومية تدعونا الآن لتشكيل مجلس تعاون شامي وآخر شمال أفريقي لعل وعسى أن تبزغ شمس الوحدة العربية بعاصمة واحدة واقتصاد واحد، وجيش واحد وعلم واحد، وجوازات سفر واحدة، وعملة واحدة انسجاماً مع صيحة شريف العرب وملكهم الحسين بن علي والتي وردت في كتاب (الحركة العربية للمؤرخ الأردني الكبير المرحوم سليمان الموسى، ص695).
وستبقى الأم الأردنية والفلسطينية والعربية بشكل عام هي حاضنة (الكرامة) وصانعة الرجال ليوم النصر الأكيد على كل محتل ومستعمر وميدان المعركة تلك تحدث لنا ولا يزال عن (أم يوسف) المرحومة نعمة شحادة مثلاً التي حولت منزلها إلى عيادة لإسعاف الجرحى وقدمت الشهداء، واحتضن الأردن كامل قضية فلسطين ولاجئيها بفخر واعتزاز ولا يزال كذلك في كل المحافل الدولية التي يتقدمها سيدنا جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين باقتدار فريد ويشهد العالم لجلالته بذلك، وسيبقى الأردن المساند الحقيقي لكل أهلنا في فلسطين.