الجامعة مثل الجامع، لكن دخولها ليس فرضاً!
نسيم الصمادي
24-03-2016 03:32 AM
الجامعة مثل الجامع، فهي تجمع ولا تفرق، وهي مفتوحة للجميع بغض النظر عن العمر والأصل والفصل واللون والجنس والطول والعرض والغنى والفقر. لكن الجامعة اهم من الجامع، لأنها تضم في حرمها جوامع ومجامع ومراجع. كما أن التعليم في رحابها يكون – أو ينبغي أن يكون – في اتجاهين. وعندما يتحول التعليم الجامعي إلى "جوامعي" يعتمد على الإرسال من طرف (الخطيب والمعلم) واستقبال من طرف ثانٍ (الطالب) فإنه يتحول من تعليم عالٍ إلى عادي، ويستبدل العقل بالنقل.
هذه هي رؤيتي للجامعة، وهي رؤية ربما تستطيعون من خلالها رصد الأخطاء التي ارتكبها كل من "عبدالله النسور" و "اخليف الطراونة" في إدارتهم لأزمة الجامعة الأردنية الأخيرة؛ والتي فشل فيها كلاهما، ولم يفز فيها أحد.
الجامعة الأردنية منظمة رسمية تخضع للسياسات الحكومية، وتكاد تكون أزمتها الأخيرة نسخة مكررة من أزمة جامعة "بيركلي" الأمريكية في عام 2008. وكم تمنيت لو أن رئيس الجامعة الذي عاقبته الحكومة بعدم التجديد له، اطلع على تجربة "بيركلي" وهي أكبر وأشهر جامعة حكومية في العالم. وما يثير العجب أن "الطراونة" الذي يحمل دكتوراه في "جودة التعليم العالي" من جامعة أمريكية، ودبلوم في الاقتصاد من مدرسة إيطاليا، وبكالوريوس في "الإدارة العامة" من ذات الجامعة الأردنية، لم يفكر في استخدام منهجيات الجودة والمقارنة المرجعية والبحث عن حلول ابتكارية وتحليل حالات دراسية مماثلة ليبتكر حلولاً علمية لأزمتة الإدارية التقليدية.
ولا يطال العتب الرئيسَ السابقَ وحده. فمن مبادىء القيادة الأساسية أن تتسع المسؤوليات لتتساوى أو تتجاوز الصلاحيات، وليس العكس. فعندما تسمح الحكومة لنفسها في التدخل في شؤون الجامعات، فعليها - بالضرورة - أن تتحمل مسؤوليات إدارتها وتمويلها، ونتائج أخطائها. ومن ثم؛ على رئيس الوزراء الذي حشر أنفه في شأن لا يخصه لا دستوريا ولا تربويا ولا قياديا، أن يوجه وزير ماليته بتوفير الدعم المالي الضروري للحفاظ على أداء الجامعة وتراثها ومسقبلها. وهذا ما يفسر انتصار الطلبة في مطالبهم التي تبدو منطقية، لكنها ليست عادلة في حقهم وحق مجتمعهم؛ لأن انتصارهم يعني استمرار حصولهم على تعليم ضعيف لا ينفعهم ولا ينفع المجتمع، ولكن على حسابهم وحساب المجتمع الذي يحتجون من أجله.
تعتبر "أكاديمية" أفلاطون أول جامعة في التاريخ. وقد أسسها مستلهماً تعاليم أستاذه "سقراط" الذي أُعدِم لأنه علم تلاميذه أن الحكمة لا تنبع من المؤسسات، وإنما من داخل الإنسان عندما يمارس التفكير الحر. ومن الصعب ممارسة التفكير الحر في مؤسسات تحتكر أربع سنوات من عمر الإنسان، ثم لا تسمح له بأن يفكر ويعبر. ومثلما فشل أستاذ "أفلاطون"، فشل أيضا تلميذه "أرسطو" الذي علم تلميذه "الإسكندر" كيف يُعّسْكر العالم ويغزوه، فمات صريعَ غزواته ونزواته، لأنه لم يتعلم الحب والتفكيرَ الحر.
تكررت نفس الظاهرة في ألمانيا التي أسَّست أكبر الجامعات في القرن الثامن عشر. ولأن أهدافها العلمية الرسمية فاقت أهدافها الإنسانية، فقد انتهت ثورة التعليم العالي الألماني إلى عسكرة ألمانيا على يد "بسمارك"، الذي أعيد أيضاً استنساخ فكره "العسكرتاري" في النصف الأول من القرن العشرين، فكانت النتيجة حربين عالميتين جلبت الدمار للعالم على يد "هتلر" الذي شكل الطلبة والأكاديميون والعلماء الألمان غالبية مؤيديه.
الجامعات تُقاد لكي تَقود، وعندما تتمخض الجامعة الأردنية وتلد أكثر من خمسين فوجاً من الخريجين على مدى نصف قرن، وهي ما زالت تُعاني من العقم، ولم تعثر حتى الآن على قائد "مُلهَم ومُلهِم" من خريجيها ليأتي وينتشلها من مستنقع الضعف واللاجدوى الذي أوقعتها الإدارة الحكومية الفاشلة فيه، فهذا يعني أنها بحاجة إلى إعادة اختراع وتغيير جذري، يقوده جيل جديد من الشباب المبدع، لأنها زالت تتراجع في ترتيب الجامعات العالمية، ولم يتطوع الناجحون السابقون من أبنائها لدعمها والتبرع لها، فهي الأم التي يتخلى عنها أبناؤها العاقون، كلما تقدم بها العمر وظهرت على وجهها الجميل تجاعيد العمر الطويل.
هناك حلول يمكن للجامعة الأردنية اجتراحها للخروج من أنفاق العجز الأكاديمي والاقتصادي والقيادي؛ وهي حلول يمكن اجتزاءُ بعضِها من تجربة "بيركلي" وغيرها من الجامعات الرسمية التي واجهت ذات المصير، ويمكن اقتراح بعضها الآخر وطرحها أمام الرأي العام واختيار رئيسها على أسس الانتماء الوطني والكفاءة الاستثمارية والعلمية والتنفيذية، لا على أسس الولاء القبلي والانتماء المناطقي؛ وانطلاقا من الاعتبارات الديموقراطية والفكرية، لا الأمنية؛ ففي بداية ونهاية المطاف، تبقى الحرية هي أوْلى وأعلى القيم الإنسانية. أما الطبقية الرسمية والمجتمعية التي تنقسم دائماً على نفسها، وتتشَّظى فكرياً وثقافياً واجتماعياً وأخلاقياً، لتستهلك ذاتها في إدارة صراعاتها، فلن تورِث نفسها وأبناءَها إلا مزيداً من العقم والعجز عن استشراف المستقبل.