تعقيبات على جدلية العلاقة بين المثقف والإصلاح مراحل وعصور
بلال حسن التل
23-03-2016 01:10 PM
في مقالها المنشور على صفحات الرأي الغراء بعنوان «جدلية العلاقة بين المثقف وحركات الإصلاح» أثارت الدكتورة آية عبدالله الأسمر العديد من القضايا ذات العلاقة المباشرة بواقعنا، من حيث أنه واقع مأزوم مظلم، تعيش فيه الأمة واحدة من أشد مراحل انحطاطها الحضاري. وهي حالة لا تنفرد بها أمتنا، لكنها حالة تمر بها الأمم التي تصاب بأسبابها وتخضع لقوانينها. فأي دارس لتاريخ الحضارات سيكتشف أن هناك أمما تعيش دورات مختلفة من الصعود والهبوط الحضاري منها أمتنا، وأخرى اندثرت ولم يعد لها وجود حضاري نهائيا، أو أنها وصلت مرحلة الإندثار على حد وصف الدكتورة الأسمر. حيث يؤكد علم الأنثربولوجيا الإندثار النهائي للعديد من الشعوب التي لم تأخذ بأسباب التدافع الحضاري.
في بداية مقالها قالت الكاتبة: «إن الدارس للتاريخ الإنساني يعلم أن المجتمعات البشرية تمر بمراحل وعصور،إما أن تزدهر فيها هذه المجتمعات حتى تبلغ ذروة الازدهار والتقدم، في كافة الميادين والمجالات كمرحلة أخيرة تسبق بداية الاندحار والانهيار، أو أنها تنزلق في غياهب الظلام والجهل والرجعية، حتى تصل إلى مرحلة الانسحاق في الحضيض، كمحطة أخيرة تسبق الاندثار أواليقظة والنهضة».
في حديثها هذا عن المراحل والعصور التي تمر بها المجتمعات البشرية تضع الكاتبة اصبعها على سبب مهم من أسباب واقع أمتنا، وهو سبب يشكل ناموساً رئيسا من نواميس حركة الكون والعمران البشري، هو ناموس التدافع الحضاري وتغير موقع الأمم على السلم الحضاري. وهو الموقع الذي له شروط لابد من توفرها في الأمة التي تريد أن تحتل موقعا متقدما على هذا السلم، وهي شروط يلحظها أى مدقق في مسيرة التدافع والتداول بين الأمم عبر مراحل التاريخ المختلفة، وتنافس الأمم على مكان الصدارة والقيادة للبشرية،وهو التنافس الذي حولته بعض الأمم إلى صراع اعتمدت فيه على قوتها العسكرية وحدها فاستخدمتها للبطش والظلم وقهر الشعوب الأخرى، دون أن تبذل جهداً للمساهمة في البناء الحضاري للبشرية في مجالات الفكر والثقافة والفنون والمنظومة القيمية، بل أن مثل هذه الأمم التي تعتمد البطش لفرض سيطرتها على الآخرين تتصف في الغالب الأعم بالظلم والفساد،وهذا الصنف من الأمم الذي اعتمد على قوته العسكرية وحدها، هي الأمم التي اندثرت ولم ينطبق عليها قانون التدافع والتداول، ذلك أنها بمجرد أن فقدت أسباب قوتها المادية المجردة التي حولت بها التنافس والتدافع بين الأمم إلى صراع اندثرت وأصبحت أثراُ بعد عين،ويشكل التتارالنموذج الصارخ لهذا النوع من الأمم التي اندفعت عسكريا ثم تلاشت دون أن تترك إرثاً حضاريا يمكنها من النهوض مرة أخرى، لأن الإرث الحضاري يشكل مصدر إلهام لأبناء اية أمة لإعادة أمجاد أمتهم،كما أن الإرث الحضاري للأمة أحد دوافع أبنائها لتحقيق قانوني التداول والتدافع، من خلال حنينهم لاسترجاع مجد أمتهم والخلاص من مراحل انحطاطها وتخلفها.
إن أي دارس لأسباب النهوض الحضاري وبقاء الأمة على سلم التدافع الحضاري دون أن تصل إلى مرحلة الاندثار، مهما وصلت درجة ضعفها وتراجع حجم إسهامها في الفعل الحضاري في مراحل انحطاطها، سيكتشف أن المكانة الحضارية للأمة ليست مرتبطة بقوتها العسكرية، كما أن هذه القوة العسكرية لا تكفل بقاء الأمة، ولا تحميها من الاندثار، فشواهد التاريخ تؤكد أن كثيرة هي الأمم التي كانت إسهاماتها في البناء الحضاري للبشرية أضعاف مساهمات أمم تميزت بقوتها العسكرية لكنها لم تسهم في البناء الحضاري للبشرية.كما تؤكد هذه الشواهد أن أمما كثيرة اندثرت رغم قوتها العسكرية مما يعني أن حماية الأمة من الاندثار وعودتها إلى المساهمة في حركة التدافع الحضاري، من خلال الفعل الحضاري الذي يخرجها من مراحل التخلف والانحطاط يحتاج إلى أسباب كثيرة لا بد من أن تأخذ بها حركات الإصلاح العربية حتى تؤتي أكلها وهو ما سنتعرض له في مقال لاحق. نواصل فيه التعقيب على جدلية العلاقة بين المثقف وحركات الإصلاح.
"الراي"
Bilal.tall@yahoo.com