بشارة : الاستبداد هو من يطرح التخيير بين الحرية والحياة
22-03-2016 03:30 AM
عمون - استهل المؤتمر السنوي الخامس للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة لمدة ثلاثة أيام، أعمال يومه الثاني (الأحد 13 آذار/ مارس 2016) بمحاضرة رئيسة قدّمها المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة حول "الحرية" في الفكر العربي. وأكد فيها مجموعةً من الأفكار المهمة في السياق العربي، وفي مقدّمتها رفض المساومة بالمفاضلة بين الحريات والحفاظ على الاستقرار أو الحفاظ على الحياة.
أخذت المناقشة الفلسفية لـ "الحرية" الحيّز الأكبر في محاضرة الدكتور عزمي بشارة، وأشار منذ البداية إلى أنه يذهب في اتجاه القائلين بأنّ "الحرية" ليست معطى طبيعيًا، وأنّ الإنسان لا يولد حرًا فكريًا وجسديًا وإراديًا. وعندما يقول بعضهم إنّ الإنسان يولد حرًا، فإنما يقصدون أنّه لم يولد عبدًا. ولخّص قوله في أنّ الإنسان لا يولد حرًا وأنّ الحرية لا تشترى جاهزة ولا تورّث، وأنها تقوم على العقل والإرادة.
عزمي بشارة
وطاف المحاضر في أرجاء الفكر الغربي الكلاسيكي والليبرالي والحداثي، وكذلك في الفكر النهضوي العربي والمعاصر، وقبلها في الفلسفة الإغريقية اليونانية، لفحص الجوانب المختلفة لمقولة الحرية، وانتهى إلى التأكيد أنّ الحرية ليست أنطولوجية ولا كوزمولوجية؛ فهي في الوعي والممارسة الإنسانية وليست في الكون. وخلص من النقاش إلى أنّ "الحرية" في نطاق العلوم الاجتماعية والإنسانية مصطلحٌ وليست مفهومًا؛ لأنّ المفترض في المفهوم هو أنّ يقدّم للباحث في هذه العلوم أداةً تحليليةً لفهم الظواهر، وهو ما لا يوفّره مصطلح "الحرية"، على الرغم من الإشكاليات التي تثيرها مناقشة "الحرية" كمصطلح. ولخّص بشارة ذلك بالقول: "الحرية بحد ذاتها ... قيمة، وليست مفهومًا، ويصعب تطويرها كمفهوم".
وأوضح المحاضر أنّ المناقشة الفلسفية لـ "الحرية" ليست جوهر ما يجب التركيز عليه، وأنّ مهمة الفكر العربي والباحثين العرب هي في تشخيص المسائل ذات الصلة بمسألة الحرية والحريات في الواقع العربي المعاصر. وقال: "يكمن التحدي الحقيقي في قدرتنا على مغادرة النقاش الفلسفي حول الحرية والانطلاق إلى مسائل الحريات وشروط تحقيقها في واقع المجتمعات والدول العربية".
والمسألة واضحة في نظر الدكتور عزمي بشارة بأنّ قيام بعضهم بتحميل عدم مثابرة مفكري النهضة مسؤولية مأزق الحريات في أقطار الوطن العربي، ينطلق من طرحٍ مقلوبٍ يتجنّب مناقشة الأنظمة السياسية الاستبدادية نفسها. ولكنه يؤكد أيضًا أنّ التحرّر من الطغيان من دون تأسيسٍ للحريات ونظامٍ يحمي هذه الحريات، قد ينشئ طغيانًا جديدًا، أو فوضى مؤقتة تقود إلى طغيان. ويرى أنّ الديمقراطية هي النظام الذي يمكن أن ينظّم الحريات ويضمنها في الوقت ذاته.
وخصص المفكر الدكتور عزمي بشارة القسم الأخير من محاضرته إلى استعراض أبرز الأسئلة العملية التي تنتج من النقاش الفلسفي والفكري الذي قدّمه حول "الحرية"، ومن تحديات الحرية والحريات في الواقع العربي الراهن.
ويتعلق أول سؤالٍ بفكرة أنّ "الحرية" تقوم على الوعي والإرادة، وعند تنزيل هذا المبدأ على الحريات السياسية في الواقع العربي اليوم، يجري التساؤل إن كان الوعي شرطًا للقدرة على ممارسة هذه الحريات أم أنّ ممارستها تؤسس للوعي، ويظهر في هذه الحال دور العامل الخارجي في بناء وعي الفرد بحرياته السياسية. وقال في إجابته عن هذا السؤال: "إنّ التثقيف على ممارسة الحريات بمسؤولية لا يختزل في إتاحة الدولة للأفراد المجال لممارستها ... لا بد أنّ تنضم المؤسسات الاجتماعية والسياسية كافة – بما فيها الأحزاب – للاضطلاع بهذه المهمة، فهي تساهم في تنشئة المواطن وتعويده على ممارسة الحريات وتحمل مسؤولياتها". وفي هذا الإطار، يرى أنه من المهم في المراحل الأولى لبناء الديمقراطية مراعاة مدى التزام النخب المدنية والسياسية بالحريات، وقدرتها على التثقيف فيها، بما في ذلك تقديم النموذج عنها.
ولعل أبرز الأسئلة الراهنة التي طرحها المحاضر في واقع الحريات الراهن في العالم العربي سؤال: "إذا وقعت المفاضلة بين الاستقرار والحفاظ على الحياة من جهة والحرية من جهة أخرى، فأيهما نختار؟". ويوضح أنّ هذا السؤال وهميٌ، فمن يعارض الحريات المدنية والسياسية لا يقول إنه يؤيد الظلم والاستبداد، إنما يحاول أن يقابل الحرية بقيمة أخرى هي مثلًا "الوطنية" موجهًا التهمة للحريات المدنية والسياسية بأنها مؤامرة خارجية. وتطرح المفاضلة بين قيمة الحرية وقيمة الحياة حين يصبح مطلب الحريات مكلفًا إلى درجة الحرب الأهلية والفوضى. ويشدّد الدكتور عزمي هنا على أنّ هذه المفاضلة غير حقيقية، فللظلم ثمن باهظ جدًا على مستوى الحياة نفسها على المدى البعيد. ويرى أنّ الأمر يتوقف في النهاية على "واقعية" تحقيق مطلب الحريات، ففي حال كان ذلك ممكنًا وواقعيًا يكون الناس مستعدين لتقديم التضحيات من أجل ذلك، ويكون السؤال المتعلق بالاستعداد للتضحية من أجل الحرية سؤالًا فرديًا يقرر الإنسان فيه لنفسه. ومن هنا تبرز أهمية المسؤولية الملقاة على عاتق أي فاعلٍ اجتماعي يسعى إلى التغيير، في التأكد من توافر برنامج لنظام بديل من الاستبداد يضمن الحريات، ومن واقعية هذا البرنامج. وفي النهاية، يؤكد بشارة أنّ ممارسة الحرية قد تؤدي إلى أخطاء وربما كوارث، ولكننا من أجل تصحيح المشاكل الناجمة عن استخدام الحرية سوف نحتاج إلى حرية.
وطرح المحاضر أيضًا سؤالًا عن العلاقة بين الحريات الشخصية والحريات المدنية والسياسية، وهل يمكن قبول نظامٍ مستبدٍ يسلب الحريات المدنية والسياسية في مقابل ضمان الحريات الشخصية؟ ويؤكد في ردّه على هذا السؤال أنّه لا تصح المساومة بالتنازل عن الحريات المدنية والسياسية في مقابل حماية نظام الاستبداد للحريات الشخصية، وبالمثل لا يصح أيضًا تدّخل أي نظامٍ في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس اليومية ويدّعي أنه يحمي الحريات المدنية والسياسية لأنّ رغبته في التدخل في الحريات الشخصية ستجعله عاجلًا أم آجلًا يقمع الحريات المدنية والسياسية.
وفي إجابته عن السؤال الأخير الذي طرحه في الحرية في السياق العربي، ومفاده: ما العلاقة بين حرية الفرد وحرية الجماعة التي ينتمي إليها؟ يؤكد بشارة أنّ هناك حالةً واحدةً حين تكون الجماعة الواقعة تحت الاحتلال أو التي تعرّضت لسياسة ميزٍ عنصري كجماعة، يصبح فيها تحرر الجماعة شرطًا لتحرّر الفرد، وإن كان ذلك بحد ذاته شرطًا غير كافٍ. أما إذا طرح السؤال في الاتجاه الآخر؛ أي في حالة نظامٍ ديمقراطي يوفّر الحريات الفردية؛ هل يتبقى مكان لـ "حريات" خاصة بالجماعة؟ خصوصًا في البلدان التي تتعدّد فيها الجماعات الطائفية والقومية والإثنية. ويوضح المحاضر بعد نقاشٍ مستفيضٍ لهذه المسألة أنّ المبدأ الأساسي الذي يصنع الفرق كله في الحالة الديمقراطية على الأقل، يكمن في قبول فكرة حقوق الجماعة وحرياتها داخل الدولة بتأسيسها على حقوق الفرد "المواطن". فالأولوية في النظام الديمقراطي هي لحريات الفرد ومنها تشتق حريات الجماعة.
التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للتمدين
تواصلت في اليوم الثاني من المؤتمر الجلسات الأكاديمية التي قدّم فيها باحثون من مختلف البلدان العربية بحوثًا مميزة في موضوعي المؤتمر؛ ففي موضوع "المدينة العربية: تحديات التمدين في مجتمعات متحولة"، شملت الجلسات الأربع لليوم الثاني معالجة عدة أوجه للمدينة العربية، بداية بمحاولة الكشف عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي أحدثتها التطورات التي شهدتها المدينة العربية. ومن خلال دراسات حالة، قدم الباحثون في هذه الجلسة صورة عن تحولات المدينة العربية، فقدم الباحثان كلثم علي الغانم وعبد الله بادحدح تقييمًا للأثر الاجتماعي للتنمية العمرانية المكثفة في قطر عبر دراسة مقارنة للقيم الاجتماعية وقيم الجوار بين سكان المباني العالية (أو الأبراج كما تسمى) والمباني المنخفضة. وكشف الباحث خليفة عبد القادر أنماط إعادة تشكيل البنيات الاجتماعية في مدن الصحراء الجزائرية. وفي مقاربة عكسية، قرأ الباحث عبد العزيز حسن البصير أثر التحولات الاجتماعية والاقتصادية في البناء الاجتماعي للمدن السودانية.
وفي جلسة بعنوان "التغيرات المرفولوجية في المدينة المعاصرة" لفتت الانتباه دراسة للباحثة هتون أجواد الفاسي عن "تحديات الحفاظ على هوية الحرمين المقدّسين" أبرزت فيها كيف أدت التوسعات المختلفة والتطوير إلى طمس كثير من معالم مكة المكرمة. وناقشت الجلستان الأخيرتان في اليوم الثاني للمؤتمر في موضوع "المدينة العربية" أيضًا تأثيرات الهجرة الداخلية وطرحت الإشكالية المتجددة لترييف المدينة ومدننة الريف، وجرى توصيف تحديات التمدن والتحديث في المدينة العربية.
أما في الموضوع الثاني للمؤتمر، والخاص بالحرية في الفكر العربي المعاصر؛ فقد أفردت أولى جلسات اليوم الثاني لمناقشة الحرية الدينية وحرية المعتقد، وأعادت ورقة الباحث معتز الخطيب مناقشة حدّ قتل المرتد كمدخلٍ لإعادة التفكير في الاجتهاد الفقهي. وخصصت الجلسة الثانية للحرية ضمن سؤال الحداثة والنهضة. وناقشت الجلسة الثالثة "الحرية" ضمن المشروعية السياسية والتحرر الوطني، فيما خصصت الجلسة الأخيرة من اليوم الثاني لمناقشة المظاهر الحديثة للمساس بالحرية والمرتبطة بوسائط الاتصال التكنولوجية عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
وسوف يشمل برنامج اليوم الثالث للمؤتمر (الاثنين 14 آذار/ مارس 2016) محاضرة رئيسة للدكتور عبد الرحمن رشيق، وكذا جلستين في كل واحدٍ من موضوعي المؤتمر، ثمّ يقام في مساء اليوم الثالث حفل توزيع الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية.
يذكر أنّ المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي ينظمه المركز العربي يعد أحد أهم المواعيد السنوية بالنسبة إلى الباحثين والدارسين في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويوفر المؤتمر منصةً متفردةً للوقوف على تطورات البحث واتجاهاته في العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويشمل برنامجه في دورته الخامسة مساهمات باحثين من 13 بلدًا عربيًا، هي: مصر، المغرب، الجزائر، قطر، سورية، السودان، تونس، فلسطين، لبنان، السعودية، الكويت، العراق، موريتانيا. ويسجل الباحثون الشباب حضورًا لافتًا في المساهمة بأوراق بحثية في المؤتمر، كما يقدم أساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا مساهمات نوعية أيضًا.
وكان المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قد خصّص مؤتمره السنوي الأول للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي عقد في الدوحة في آذار/ مارس 2012 لموضوعي: "الهوية واللغة في الوطن العربي" و"من النمو المعاق إلى التنمية المستدامة: أي سياسات اقتصادية واجتماعية للأقطار العربية؟"، وفي الدورة الثانية في عام 2013 في الدوحة اختار المركز العربي مناقشة موضوعي: "جدليّة الاندماج الاجتماعي وبناء الدّولة والأمّة في الوطن العربيّ"، و"ما العدالة في الوطن العربيّ اليوم؟"، وعقد المركز المؤتمر السنوي الثالث للعلوم الاجتماعية والإنسانية في تونس في عام 2014، وناقش موضوعي: "أطوار التاريخ الانتقالية، مآل الثورات العربيّة" و"السياسات التنموية وتحدّيات الثورة في الأقطار العربيّة". واحتضنت مدينة مراكش في المغرب الدورة الرابعة من المؤتمر وتناولت موضوعي "أدوار المثقفين في التحوّلات التاريخية" و"الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي".