خمس سنوات مضت على انطلاق شرارات الأزمة السورية، والجدل بشأنها لم ينقطع: ثورة أم مؤامرة ... خمس سنوات عجاف لم تكن كافية لتبديد الاستقطاب وردم الفجوات في مواقف الأطراف المختلفة ... خمس سنوات مرت، وكأننا ما زالنا في يومنا الأول، لم نبرح مكاننا، ونحتفظ بسجالاتنا الأولى.
والحقيقة أنه ما من أزمة أو ثورة من أزمات المنطقة وثوراتها، أثارت وما تزال تثير هذا القدر من الاختلاف والشقاق، الذي لم تقف حدوده عند حدود بلد معين، أو تيار سياسي فكري محدد... فقد جاء عابراً للأقطار والتيارات، وأحياناً للطوائف والمذاهب، بقدر ما جاء عاصفاً ومدوياً، ذهب بتحالفات وائتلافات، وأعاد رسم خطوط جديدة لاصطفافات القوى وانحيازاتها.
وثمة أسباب عديدة، وراء هذه “الخصوصية” التي ميزت الحدث السوري عن غيرها من الأحداث التي تفاعلت في سياق الربيع العربي:
أولها: أن مساري “الثورة” و”المؤامرة” قد تلازما وتزامنا منذ اليوم الأول للحدث السوري ... كان للشعب السوري كافة أسباب الثورة ومبرراتها، من فساد واستبداد، توريث وتجديد وتمديد، وكانت لأطراف إقليمية ودولية عديدة، ما يكفي من الأسباب و”الحوافز” للانقضاض على دمشق، وتسوية الحساب معها، إن بسبب مواقفها ومواقعها في العديد من أزمات المنطقة وتحالفاتها، أو بسبب تحالفها غير المقبول من أطراف عديدة، مع إيران وحزب الله على وجه التجديد.
ثانيها: أنها واحدة من أطول “الأزمات/ الثورات” التي عصفت بالمنطقة في سياق ما بات يعرف بـ “الربيع العربي”، وأكثرها كلفة على الإطلاق ... مئات ألوف الضحايا وعشرات ألوف المفقودين وملايين النازحين واللاجئين، ومليارات الدولارات من الخسائر المادية، أصابت المراقبين والمتابعين بالحيرة والاضطراب عند توزيع المسؤوليات عمّا حدث، كيف حدث، ولماذا حدث؟
ثالثها، أنه ما من عاصمة إقليمية أو دولية، ذات صلة بأيٍ من نزاعات المنطقة وصراعاتها العديدة، إلا وكان لها “إصبع” في هذه الأزمة، التي بدأت محلية، وكان بالإمكان حلها في الإطار الوطني، قبل أن تصبح إقليمية، وتتحول إلى مدخل لحروب الوكالة وتصفية الحسابات، لتنتهي أزمة عالمية بامتياز، تتقرر وجهاتها واتجاهاتها في كل من موسكو وواشنطن على وجه الخصوص.
رابعها: أنها أزمة وضع قوى الإقليم، وفي مراحل معينة القوى الكبرى، على شفير حرب كبرى، وحافة هاوية، كان يمكن أن تودي بالسلم الإقليمي والعالمي، وتعيد رسم خرائط التقسيم والتقاسم، ومناطق النفوذ، وتعيد توزيع شعوب المنطقة على خرائط غير تلك التي رسمها سايكس وبيكو قبل مائة عام... هنا، وهنا بالذات، تراجع الاهتمام بما كان يوصف بأنه مطالب الثورة والشعب السوريين، التي تضاءلت أمام “هول” الأجندات” المصطرعة، والتداعيات المحتملة للحدث السوري.
والمؤسف أن العالم لم يتوقف ملياً وطويلاً، أمام مناسبة مرور خمس سنوات على هذه الأزمة، مفترضاً على ما يبدو، أنه من المبكر إجراء مثل هذه الوقفات، فالأزمة ما زالت مستمرة، وخط نهايتها لم يلح بعد في الأفق، وبرغم “الفرصة” التي لاحت مؤخراً بإمكانية حلها، إثر انطلاق مسار فيينا جنيف و”دبلوماسية الصدمات” الروسية”، إلا أن “التشاؤم” ما زال سيد الموقف في عند الحديث عن مستقبل سوريا ومآلات أزمتها الوجودية العاصفة.
ويمكن القول، بقليل من التحفظ، أن الأزمة السورية، أكثر من غيرها من الأزمات المشتعلة في المنطقة (ليبيا، اليمن والعراق)، قد تسبب في “ابتلاع” ظاهرتين من أنبل الظواهر التي عرفتها المنطقة في ثلث القرن الأخير: المقاومة العربية للاحتلال والعدوان، وثورات الحرية والكرامة والديمقراطية التي اندلعت في السنوات الخمس الأولى... قطار الربيع العربي توقف في محطته الدمشقية، وقد لا يغادرها لسنوات عديدة إلى عواصم أخرى ... والمقاومة، غرفت في بحر الانقسام المذهبي العميق، وتبددت القداسة التي أسبغت على رسالتها وسلاحها.
كما يمكن القول، بكثير من اليقين، أن الأزمة السورية، جاءت “كاشفة” تماماً للمنظومة الأخلاقية والقيمية لمعظم إن لم نقل جميع، التيارات والشخصيات الفكرية والثقافية والسياسية العربية، سواء أولئك الذي انتظموا في حلقات الدعم والمناصرة للديكتاتورية والتوريث والقمع الدموي، من يساريين وقوميين وحتى ليبراليين ... أو أولئك الذين تدثروا بعباءات المال من دون أن يستشعروا تناقضاَ من أي نوع، بين “عروبتهم” و”يساريتهم” و”ليبراليتهم” من جهة، وثقافة “البيعة” من جهة ثانية ... لكأن دمشق التي أدخلت الوراثة على الخلافة والرئاسة، تأبى إلا أن تكون “فاضحة” لزيف مواقفنا وسطحية تحولاتنا خلال ربع القرن الأخير على أقل تقدير.
الدستور