استفاق العالم من “صدمة” القرار الروسي المفاجئ بالانسحاب الجزئي من سوريا، فماذا وجد؟ وجد أن القرار قد أنعش الآمال والرهان على أول فرصة حقيقية لحل سياسي للأزمة السورية على حد تعبير جون كيري، الذي قرر صبيحة اليوم التوجه إلى موسكو للتباحث مع القيصر حول “الخطوة التالية”. وأن مسار جنيف الذي لم يحرز شيئاً في جولاته السابقة، سوى إعادة انتاج الفشل، والإبقاء على “المتاريس” ذاتها، قد تحرك، واكتسب قوة زخم جديدة، وفقاً لوصف ستيفان ديمستورا.
وأن المواقف الأوروبية، وإلى حد كبير، العربية، التي ذهبت بعيداً في نقد السياسة الروسية و”شيطنة” زعيم الكرملين، قد اتخذت منحى مغايراً، وبدأت تفضل نبرة الإشادة والتثمين، كما ورد على لسان هولاند ونظرائه الأوروبيين. وأن روسيا التي ظلت محاصرة بأغلال القرم وأوكرانيا، قد توفرت على فرصة لتكسير أغلالها، والخروج من أطواق العزلة، التي ضربتها حولها واشنطن وحليفاتها الأوروبيات. وأن مسار “تصحيح” أسعار النفط، الذي جمع الرياض وموسكو على الرغم مما يباعدهما من خلافات، سيكتسب زخماً سياسياً، وليس اقتصادياً فحسب، تفيد منه موسكو والرياض وسائر الدول المصدّرة، سيما بعد قيام لافروف بـ “إلقاء التحية” على الرياض، مثمناً جهودها في توحيد المعارضة و”عقلنتها”.
وأن الذين امتهنوا هجاء “الاحتلال الروسي” لسوريا، و”بلطجة بوتين وشبيحته”، هم أنفسهم الذين شرعوا في تثمين الخطوة، واستذكار أن موسكو لم تكن تنوي البقاء إلى الأبد في سوريا، وأن تدخلها فيها، لم يكن كرمى لعيون الأسد، وإنما لأهداف أخرى، لن تجد المعارضة صعوبة في التأقلم معها، حتى لا نقول في تأمينها. وأن مسار التهدئة الذي ظنته المعارضة وبعض رعاتها تكتيكاً يتعين القبول به بشروط ثقيلة، قد بات واحداً من حقائق الميدان السوري، وأنه في طريقه لأن يصبح وقفاً لإطلاق النار، وتوطئة لمزيد من خطوات بناء الثقة. وأن المصالحات الميدانية (المحلية) التي طالما تم التشكيك في جدواها، ستصبح مع الأيام وقادم التطورات، أحد ركائز استراتيجية الحرب على داعش والنصرة والإرهاب، وأنها تتوفر على غطاء دولي، وليست محاولة لسحب البساط من تحت أقدام المعارضة (لا أدري إن كان هناك بساطٌ أصلاً، وعن أي بساط يتحدثون). وأن الحرب على الإرهاب، ستكتسب زخماً إضافياً بعد القرار، وليس نكوصاً أو انتكاساً، سيما بعد المعلومات عن تقاسم عمل وظيفي بين واشنطن وموسكو وحلفائهما لمطاردة داعش حيثما ثقفوها. وأن النصرة بدورها لن تختبئ إلى الأبد، خلف “دروع الكثافة البشرية” في مناطق تواجدها، أو تحت ستار مضلل من التحالف مع المعارضات والفصائل الأخرى ... زمن الانفصال عن النصرة قد أزف، وسوريا قد تواجه سيناريو أفغانياً، ليس بالضد من مصلحة روسيا، ولكن بالضد من مصلحة الجهاديين، الذين حذر أبو قتادة الفلسطيني من اقتتالهم وتفرقهم، “فتذهب ريحهم” تماماً مثلما حصل لأسلافهم بعد الانسحاب السوفياتي من أفغانستان. وأن دائرة التوافق الأمريكي – الروسي ستشهد المزيد من الاتساع والتعمق، لتشمل ربما الدخول في ثنايا ودهاليز الحل السياسي والعمل الميداني سواء بسواء، كما قال بيسكوف متفائلاً.
وأن الخلاف الروسي – السوري، سيضع دمشق على محك لم تعهده من قبل، في علاقتها مع “الحليف الاستراتيجي”، فإما التقدم على طريق الحل السياسي تحت سقف التوافق الأمريكي الروسي، وما يعنيه من مخرج آمن كما قال تشوركين ذات يوم، وإما الاستمساك بنظرية “التعديل الوزاري” بوصفها أقصى ما يمكن أن تقدمه دمشق من تنازلات، وتتحمل تبعاً لذلك، عواقب وعقابيل موقفها وحدها. وأن حلفاء دمشق الإقليميين، لم يبق لهم بدورهم سوى التكيف مع الوقائع الجديدة الناشئة ... يبدو أن حزب الله، ومن قبله إيران، قد تسلموا الرسالة، والحزب في طريقه مرحلياً إلى مناطق عمله التي حددتها موسكو “القلمون الشرقي” لحماية ظهره وظهر بيئته الحاضنة من جهة، ولمقارعة داعش والنصرة في هذا الشريط من جهة ثانية، على طريق العودة إلى لبنان. أما روسيا، وقيصرها الخبير بأسلوب “العلاج بالصدمات”، فقد خرجت من الموقف بصورة أفضل ودور أكبر، وأحسب أنها ستكون في وضع ربما يمكنها من ترجمة ذلك، إلى مكاسب إضافية أبعد من سوريا والإقليم... بدءا من أوكرانيا وانتهاء بأوروبا والأطلسي والغرب عموماً.
الدستور