لا شيء كرحيل الأم يكسر مكابرة الرجال حين تداهمهم عقدة البكاء الحبيسة في الحناجر. فذلك شيء يشبه عودة الزمن الى ينابيعه الاولى.فمراقبة الموت البطيء، لا تنجيك من الوقوع تحت رحمة الحنين. وأول الوقوع هو رحلة تتبع الهواجس الضالة، في شعاب النفس. وفيها، تعود النفس هرباً من ضلالها... الى مساقط الرؤوس، حيث قرى ريف شققها العطش، وأوحش ترابها شُح الغيث والنسيان.
يا أم راكان.. يا بركه لك كل هذا المدى، الذي نثرته حنطة منْ ربّة الكرك الى ربّة البلقاء. فكنت التسامح والغفران، والصبر الجميل دائماً، ومحبة للناس، دائمة، لا تنقطع.
ما أوحش وأجدب.. البعد منك يا أم راكان.. فعمر يبدأ في 1921 مع تأسيس البلاد، على هيئة إمارة، ويمتد الى هذه الأيام، لا شك يحمل أزماناً في عمر إنسان. فبورك فيك المقام وبورك فيك الرحيل كما قال جواهري العراق.
أخاف اعترافي... نعم.
فكل العيون، الآن، تستطيع اختراق ضفافي... وهذا القلب، الذي يُضج بين ضلوعي، في هذه اللحظات، بالفعل حافي... بتعبير درويش فلسطين.
كسر رجال ...، ولم يكسر قوة قلبها فكل معاناتي لم توهن روحها. فقادتها قوة قلبها، العنيدة، كعادة أمهاتنا، دليلاً للرؤية في الظلمات. وظل الهواء الحار، الذي يتلو الطوفان، عادة، يذكي عقلها بومضات وضوح عجيب لا غيرك بريق الدنيا، لا تأمن حكي بلا ساس احذر.. عين الذيب لا تنام . السلطة دفلى.....الخ ويتغير الزمان..
والحجة بما هي الأم والبركة وواحة الحنين لم يغادرها معنا في عمّان قلق المنفى المحموم. غير أني لم أعرف ، الى اليوم، من أين كانت تأتي بتك القوى الخفية، التي تُمكّن من العيش. ففي الزمن، الذي كانت تتعفن فيه القلوب، دون أن يدري أصحابها، كانت تستحضر المطر فتغسل به ما يتوالد، ويتكاثر في الجوار، من حقد وبُغض وتشفي. وبالرضى العام كافحت ما تساقط من جشع على الأجيال.
فلا شاخت محبتها... ولا شخنا. ولا يبست سلالتها... ولا جفت. بل امتدت عروقاً رطبة، في حنائها الأخضر..
ألح عليَّ صدى النشيد الأول الذي لقنتيني اياه في لحظة تفتح طفولتي الاولى لا نضّم الى جوقة كل الأطفال والكبار والصغار نردد بصخب يا أم الغيث غيثينا... احتفاء واستجلاباً للمطر واكثر منه رمزية الشتاء الذي يولد الربيع...
يا أم راكان سنفتقد بركتك ودعواتك لنا بالغيث..
فاضطراب الطبيعة، يغير روائح الأشياء والناس والحجر والرجال، في حضرة الأمهات ورحيلهن، يقهرهم الحنين الى ربيع طويل. فعيش الرجال قاحلٌ، بلا أمهات يمتلكن القدرى على التحكم باليأس والخوف، في حياة السلالات.
ستفتك بنا الذكريات، بعدك، اعرف. وسنكبح رغبات في البكاء كثيرة. وستداهمنا، من دون أحزان رحيلك، كأنها نوح حمام وستحط أرواحنا على ركبتيك، لتبكي.. فلا تجدك، وستجف اشياء كثيرة، في بيت أنت روحه، لأنه لم يعد من رائحتك شيء يعود اليه. فضوء الخذلان، الباهت، قادر على إذابة المعاني النبيلة، في حياة يومية تدور كأنها حساء بارد...!! لك العتبى.. حتى ترضين، يا أم راكان . وطوبى لمن فاض الطيب والخير، في حياتها، على من حولها يا بركة.. يا رمز الغيثْ لك الرحمة. ولنا الحنين يفتك في جوانحنا. لك الرضوان ودِفئه. ولنا من بعدك جليد حياتنا اليومية.