دقيقةُ كلام ...
إلى غزة هدى
كانون الأول – 2006الساعة العاشرة صباحا ً،،،
كل ما هو موجود أو في طريقه للتواجد هناك يشير إلى أن الوقت هو غٌرّة اليوم : الضوء القادم من النوافذ ليصنع زوايا حادة و قائمة من الأمل ، الأحلام الذائبة في الهواء نشمها و لانراها ، صوت احتكاك القلم بالورقة و الإنسان بالشيطان ، و أشلاء توقيعات الحضور هنا و هناك ، سلة مهملات بدأت يومها ببقايا فطور جماعي ، و دخان سيجارة تحترق مع صاحبها ، وروائح عطور نسائية و رجالية ترمي بظلها على الأرض لكن سرعان ما ترحل ، و أفكار تقف طابور على شباك الطرح اليومي عندما يبدأ الاجتماع في مكتب المديرة الشكليّة مع غيرها من الصحفيات .
غابت تحرير عن هذا الاجتماع اليومي المنظّم طوال أسبوع ٍ كامل، و الجميع في المجلة يعتقدون أنهم فهموا السبب، لكن دون أنْ يجهروا به. و مازال الصباح العربي يحتاج إلى صوت فيروز الذي بات مؤشر مسموع كما عهدته تحرير أصغرهن سنا ً.
في هذا الحضور النسائي المتكرر يتغلب همُّ الإنسان على ميول جنسه، و تقف المشاكل اليوميّة بخجل- بعد أن تجاهلها أصحابها - خلف باب الاحتلال دون طرقه . إلا أن العم أبو جميل طرق باب المكتب ، ربما هو الذكر الوحيد المتواجد في الطابق العلوي من المجلة ،و لأن النساء أحيانا ً لا يُطقْنَ خدمة بنات جنسهن فقد وقع الاختيار عليه ليعمل " مراسل القهوة و الشاي " في المجلة و هو يجيد صنعها و- شربها أحيانا ً معهن .
أبو جميل : صباح الخير يا " ستّات" .
الجميع : صباح النور.
أبو جميل يوزع القهوة:" ثلاثة فناجين قهوة حلوة و فنجانيْن قهوة سادة". أما فنجان تحرير السادس الذي أحضره رغم علمه بعدم وجودها ، ذريعة ًو تحببا ً في البقاء.
المديرة سعاد أومأت له بالجلوس فبدأ هو الحديث :" لتكتب إحداكنَّ مقالا ً عن هدى .
عطاف: تقصد تحقيقا ً صحفيا ًو ليس مجرد مقال ، لفنون الكتابة الصحفية قوالب عدة يا عم و موضوع كقصة هدى بحاجة إلى تحقيق يتقنه أمثالي .
قالت حنان محاولة منها لتثبيطها : هدى بحاجة لدعم مادي و إنساني و ليس دعم حبري.
عطاف : الكتابة وظيفتنا .
حنان : و هل تنفع الكتابة عن صورة وصوت هز الشاشات و ما هز ضمائر القادرين على ردم دماره ؟ هدى ليست الطفلة الأولى و لا الأخيرة التي تنعم بخلود ورقي و هي تموت حزنا ً و جوعا ً .ورغم ذلك .. فلنصوت .
رفعت عطاف و مريم أيديهن مؤيدات، و تشجع العم أبو جميل هو أيضاً ورفع يده" باب مساعدتها مفتوح أمام الجميع و هذا لا يتعارض مع الكتابة عنها " انزعجت المديرة سعاد فطلبت منه مغادرة المكتب . فغادر و هو يحمل صينية انزعاجه و فنجان قهوته المتطفل .
أبو جميل أيضا ً يستطيع طرح مواضيع للنشر في المجلة لكن لا يسمعه أحد ، أبو جميل أيضا ًله قصة شخصية هو بطلها أو ربما المهزوم فيها .ربما هو لا يستطيع توزيع الأدوار بينه و بين المحتل ، و حبك القصة و المعاناة التي شهدها مع أولاده، و لكن لو استمعت إليه إحداهن لكتبت "سبْقا ً قصصيا "ً .
قامت حنان متجهة ً ناحية المذياع بعد أن انقطعت وصلة فيروز الصباحية و بدأت نشرة الأخبار و رفعت صوته :" هذا و مع دخول لبنان يومه العاشر في نكبة إنسانية سببها العدو الإسرائيلي إلا أن لبنان الحبيب يواصل صموده و مقاومته" .
بدأ الجميع يعتاد رتابة الاجتماع الذي يفتقد إلى تحرير ، قاطعت حنان هذا الاعتراف الجماعي الجديد :"عمي الشهيد لم يصبر على ابنه كثيراً ،ناداه فلحقه البارحة في عملية فدائية . أفكر في عمل دراسة موسعة عن الأسباب التي تدفع الفدائي للقيام بهذه التضحية ، و حياته ،وظروف عائلته، و ما تؤول إليه نتيجة هذه العملية".
مريم : ابن عمك كان حزينا ً لأن واقع الاحتلال حال بينه و بين خطيبته ابنة عمك الآخر في العراق لمدة عامين.
عطاف: هل تشكّكين في إيمان ابن عمها ؟
مريم : لا ، و لكنّها حقيقة لا نستطيع إغفالها .
حنان: الشهيد ابن الشهيد لا ينتظر شهادة من أحد .
دُقّ الباب .
سعاد : تفضّل .
أبو جميل : جئت لآخذ الفناجين .
سعاد : خذها .
أبو جميل " وإذ يعوده شبابه دوما ً، وجه صغير ألماسي يشقه من كل جانب لوزة زرقاء بأهداب طويلة كقامته و نحيلة كجسده الذي يتوسطه نطاق كان يوما ما أبيضا . ربما نجد في ثناياه مفتاح بيته في حيفا ، وصورة لابنه جميل و هو يزف إلى عروسه ، و جديلة صغيرة شقراء كان يراها تتدلى على ظهر أم جميل من تحت شالها و هي فتاة ، وربما نجد أيضا قطعة مسك صغيرة ، و سيجارة تراثية ساعة يدسها فيه و أخرى يضعها خلف أذنه تحتك بقلنسوته المهترئة و تترك رائحتها العبقة كما تترك القهوة رائحتها على سنه الذهبي الذي فقد بريقه بفعل القهوة السوداء و القهر الأسود اليومي . اقترح و هو ينظر إلى مسعفته مريم : رائحة النعناع في مدخل المجلة الخلفي تفوح بعذوبة تذكرني برائحة أرض أبي في حيفا قديما ً فرغبت بإعداد كوبا ً من الشاي بالنعناع ؟ ضحكت سعاد بعفوية و قالت:"بشرط أن لا تجلس معنا" . ولكن هذا الشرط خذله بعد أن اعتبر الشاي بالنعناع وسيلة لبقائه بينهن و خرج متمتما ً: " من طلع بره داره قل مقداره ... أنا وين و حيفا وين ؟ اللاجئ لاجئ حتى في بلده" .
أما منيرة فما زالت تقبع في واد ٍ آخر غير الذي تهيم فيه صديقاتها في المجلة ، و تغمض عينيها للتركيز في استجماع قوتها لطرح موضوع شخصي يتعلق فيها كمادة للمجلة . الجميع يعرف أنها ما عادت تسكن مع مراد ،و أن سجن الاحتلال غيّبه عن الدنيا ، و لا تعرف إن مازال في الرمق بقيّة يلعق بها قلب جرحه المحكوم بخمس مؤبدات . هي لا تريد أن تكتب عن حزنها الذي لا يكف يستنهض مع كل صباح حضور زوجها الروحي . هي تريد أن تكتب عن حزنه و عذاباته التي زوجوها له غصبا ً ، تعود إلى جو الاجتماع ... .
مريم : هل نصوّت؟
سعاد : "بالطبع" . رفعن جميعا ًأيديهن تأييدا ً للموضوع .
مريم : و أنا فكرت خلال الأيام الماضية أن أكتب عن ما تتكبده زوجة المظلوم و المحتل من " فش خلق " زوجها عندما يصب جام حنقه و قهره و مقته للمحتل و ظروف الاحتلال عليها .
ابتسمت منيرة محتفظة بموضوعها الشخصي في أرشيف قلبها دون أن تنظر لمريم : إذن إبدئي بزوجك .
مريم : و من أخبرك أن زوجي محتل ؟
منيرة : ماذا تعنين؟
مريم:زوجي ينطبق عليه صيغتين نحويتين " اسم الفاعل و اسم المفعول من محتل"، ماذا تسمي يا سيدتي مساعد مهندس البناء في المستوطنات الإسرائيلية ؟
سعاد: أعتقد أن هذا يدخلنا في موضوع تحقيق آخر .
قالت منيرة قابضة ً حزنها الشخصي كجمرة من الجمرات المستجدة يوميا ً في راحتها : أنا أختاره .
عطاف : اعتقدت أنك تهتمين بأمور ذات منحنى آخر تتعلق بشكل المرأة ؟
منيرة : شكلها و ذاتها ، لطالما فكرت و تساءلت لماذا يهب الله الجمال لفتيات و يحرم غيرهن منه؟
تدخلت حنان معترضة : من الائق جدا ً أن تنشر مجلتنا مقالا ً عن الجمال في وقت يتزامن بالوصول إلى ذروة المآسي الإنسانية هنا و هناك .
سعاد : و لكن المجلة غير متخصصة ... و كون فلسطين محتلة لا يتعارض مع كون فلانة رائعة الجمال .
انتهت النشرة الإخبارية و عاد صوت فيروز، و مارسيل خليفة ، و أحمد قعبور بأغانيهم الوطنية يذكرون الحاضرات بالغائبة تحرير .تُحدّث مريم نفسها بعد أن ضجّت ورقتها البيضاء بحبر ترددات صوتها المخنوق :"أشعر أن تحرير ستأتي اليوم ".
عطاف : كفانا استماعا للأغاني الوطنية على المذياع !
سعاد : أخبرتني الحركة أن التلفاز و الصحن الفضائي سيصلان للمجلة بعد أيام .
يطرق باب المكتب من جديد ، تقف مريم أصغرهن سنا ًدونما تحرير : ألم أقل لكن ؟
هلعت سعاد لتفتح الباب : إنه العم أبو جميل ..... الشاي ، تفضل .
تأفف الجميع لأنه لم يكن تحرير . و شعر أبو جميل بإحباطهن و فهم السبب فعلّق : ولكن تحرير ستأتي .
الجميع : يارب! إن شاء لله ! ياريت !
قدم الشاي المحلى و غير المحلى و كوب الشاي السادس قدمه لنفسه تصميما ًمنه هذه المرة على بقائه معهن و سأل سعاد : أرجو أن تسمحي لي !
تدخلت المجتمعات : اسمحي له ، دعيه يا سعاد .
جلس يدندن قبل أن تسمح له سعاد بذلك أغنية شعبية :" يا اولاد حارتنا / يويا نصبوا طارتنا / يويا / طارتنا اطير/ يويا / طير العصافير/ يويا .. "
سعاد " لا مجال للرفض " : أرجو أن تكون مستمعا ً فقط .
حنان : لا أصدق أن فتاة مثل تحرير في مثل هذه الأيام و لا تملك هاتفا ًخلويا ً .
سعاد: ربما نحن فقط نصدق ذلك .
تدخل أبو جميل :ولكن الحركة توفر لكل واحدة منكن هاتفا ًخلويا ً.
منيرة : رفضته.
أبو جميل : و هاتف المنزل ؟
مريم :لا من مجيب .
سعاد : ربما مجدي هو السبب .
عطاف : يقول مجدي إن مجالس العوانس و المطلقات و الأرامل مريضة بهموم بطلاتها ، أوه !نعم ، نسي زوجة الأسير . كره لنا حاضرنا كمستقبل لها . و لكننا صحفيات نعمل و نجد و لا نقضي يومنا كالقوارض نأكل الغث و السمنة طريقنا ، نهرم و نحن لا نحفظ إلا آية الكرسي وسورة الفاتحة .. .
تابعت منيرة : جل همنا اليومي هو طبخة يحبها الزوج و الأولاد ، ننام و نحن كاظمين غيظنا من كيد حماة ، نستيقظ و نحن نسمع مكالمة تلفونية بطليها الزوج و عشيقته .
العم أبو جميل أراد أن يبخر هذه الغيوم القريبة جدا من طاولة الهموم حتى كادت تمطر على أعينهن و طرح فكرة أخرى سمعها من إحداهن قبل أيام : ماذا عن الغزواي الذي يدفع ضريبة هويته في كل مكان ؟
يسمع الجميع طرقات على باب المكتب و يسود الصمت .... .
الكاتبة محررة في جامعة اليرموكsmellcofe@hotmail.com