في مقالة سابقة في الرأي الغراء، تحدثت عن «قدوم عصر العقلانية الثاني في العالم الغربي في القرن الحالي، في أعقاب «عصر العقلانية الأول» الذي نهض بأوربا في القرن السابع عشر.
وفي مقالة ثانية ذكرت وجوب تدريس (الفلسفة) في المدارس، كما كانت هذه المادة تعلم في الستينيات من القرن الماضي في مدارس المملكة. وقلت ان الفلسفة تعلم المنطق والعقلانية. واعترض أحدهم بان الفلسفة تتناف والدين. ذكرت له ان ابن رشد، وهذا سر تفوقه على غيره، انه وفق بين العقل والدين. وكان فكر ابن رشد عاملا من عوامل النهضة الأوروبية التي ترجمت فكره وتأثرت بفلسفته، وعرف عندهم باسم (أفروس Averroes) وصارت له مدرسة تعرف باسم الرشديين
وتكشفت لي صفحة جديدة في تاريخ الفلسفة العربية، اوردها المفكرجورج طرابيشي، في مقال انتقد فيه المفكر محمد عابد الجابري مؤلف كتاب (نقد العقل العربـــي) الذي ارود « إن إخوان الصفاء يقفون ضدّ المنطق وضد أرسطو وضدّ الفلسفة». هذا القول دفع بطرابيشي للرجوع لرسائل إخوان الصفا يطالعها من جديد ليتبين له انها تذكر ما فحواه :» لقد تقدم بنا الكلام في أوائل رسائلنا على أهمية المنطق لفهمنا وفهم لرسائلنا. ولكن اعلم يا أخانا أنّ المنطق منطقان. هناك منطق فلسفي حدّثناك عنه، وهناك منطق لفظي أي الكلام، لأنّه لولا الكلام لما تفاهم البشر فيما بينهم. وبعد أن يشــرحوا دور اللغة كأساس وكوسيلة للتفــاهم بين البشر يضيفون:
اعلـــم أن هناك نفوساً صــافية غير محتاجة للكلام ولا للمنطق في إفهام بعضها بعضاً، أي هناك نفــوس روحانية تتفاهم بالعين، تتفاهم باللّمس، تتفــاهم بالروح، بالوجدان، بالتخاطر كما بتنا نقول اليوم، بدون أن تكون بها حاجة للمنطق اللفظي والكلام».
يقول طرابيشي: لقد استغل الجابري ّ هذه الجملة ” ليست بحاجة إلـى منطق” ليحذف كلمة «اللفظي» وليقول إنّ هؤلاء ضدّ المنطق بمعناه الفلسفي.
ويكشف جورج طرابيشي وقوعه على شّاهد ثان في تلك الرسائل يعلي من العقلانية « وهو في معرض نقاش إخوان الصفاء حول ما بين الدين والفلسفة من علاقة يريد المتزمتون في عصرهم ( القرن الرابع للهجرة) فصمها ويدعون إلى تحريم الفلسفة باسم الدين. يقول الشاهد بالحرف الواحد: “اعلم أيّهــــا الأخ البــار، أيّدك الله بنور منه، أنّ من عرف أحكام الدّين فإنّ نظره في علم الفلسفة لا يضرّه بل يزيده فـــي علم الدّين تحققاً وفي فهم المعاني استبصاراً”. ثمّ يضيف القول: “المنطق ميزان الفلسفة وأداة الفيلسوف. ولمّا كـانت الفلسفة أشرف الصنائع على البشرية بعد النّبوة صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصحّ المــــوازين وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات ونسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات مثل صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ”
ويختم طرابيشي بالقول التالي: «وبصراحة أقول لكم: لم يكن شاهد إخوان الصفاء بالشاهد الوحيد ، بل وقعت على عشــرات وعشرات من الأمثلة علـــى مثل هذا التزوير الّذي أوقع فيه الجابري عن قصد أو عن غير قصد- لا أدري- قراءه- وأنا منهم».
لقد وُصف القرن الرابع الهجري العباسي بانه العصر الذهبي في الفكر العربي ، ولولا استيلاء الفرس أولا على مقدراته بسبب قضايا ذات صلة بالنسب، وثانيا بسبب الغزو الهمجي من قبائل لا حضارة لها مثل المغول والترك، لكانت الحضارة العربية سبقت النهضة الأوروبية التي تمكنت في النهاية من الهيمنة على مقدراتنا بعد اتفاقية سايكس بيكو قبل مائة عام.
وكل هذا مدعاة لتدريس الفلسفة العربية العقلانية في الجامعات كمتطلب اجباري.
الرأي